تفسير سورة آل عمران الآيات 155-157
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} انهزموا، أي هربوا {مِنْكُمْ} يا معشر المسلمين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم{يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي جمع المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وجمع المشركين من قريش، وهذا يوم أحد، وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم ألا القليل منهم {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أي: طلب زلَّتهم، والزلة: هي الخطيئة، فوسوس لهم الشيطان حتى أوقعهم في الخطيئة { بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} أي: تسلط عليهم الشيطان بسبب بعض ما عملوا من الذنوب السابقة {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} فلم يعاقبهم؛ لذلك قال ابن عمر للخارجي لما ذكر له فرار عثمان بن عفان يوم أحد للطعن فيه، قال له ابن عمر: "أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ". أخرجه البخاري {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ} يستر ذنوب من آمن به واتبع رسوله ويعفو عنها ولا يعاقبهم عليها {حَلِيمٌ} يعني: أنه ذو أناة، أي لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالعقاب. «فالحلم» تأخير العقوبة عن مستحقها، فهو حليم لا يُعجّل العقوبة على من يستحقها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} هذا نهي من الله تبارك وتعالى للمؤمنين أن يتشبهوا بالكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب: "لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم"، يعني لا تكونوا كالكفار {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} أي وقالوا عن إخوانهم في الكفر {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} أي: سافروا فيها لتجارة أو غيرها {أَوْ كَانُوا غُزًّى} أي أو كانوا في الغزو، أي أو كان خروجهم من بلادهم غزاة، فهلكوا فماتوا في سفرهم، أو قتلوا في غزوهم { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا} أي في البلد ولم يخرجوا مسافرين، أو غزاة {مَا مَاتُوا} في السفر {وَمَا قُتِلُوا} في الغزو، هذا ظنهم الفاسد، يعارضون به القدر{لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ} يعني قولهم وظنهم {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يعني: أنهم يقولون ذلك، كي يجعل الله قولهم ذلك حُزنا في قلوبهم وغما، ويجهلون أن ذلك بيد الله تبارك وتعالى {وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي أن الآجال بيده تبارك وتعالى، فيؤخر موت من يشاء، ويعجل موت من يشاء، قال أهل العلم: هذا ترغيب من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين على جهاد عدوه، والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قل عددهم، وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله، ويعلمهم الله تبارك وتعالى أن الإماتة والإحياء بيده، وأنه لن يموت أحد ولا يقتل إلا بعد انتهاء أجله الذي كُتب له، وينهاهم الله تبارك وتعالى أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي إن الله يرى ما تعملون من خير وشر، وسيجازيكم على أعمالكم، فاتقوه.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)}
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ} أي: لئن خرجتم فقتلتم، أو لم تخرجوا فمتم {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ} في العاقبة {وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من الغنائم، يعني: خير مما يجمع الناس من الغنائم.
أي لا تكونوا أيها المؤمنون في شك من أن الأمور كلها بيد الله، وأن إليه الإحياء والإماتة، كما شك الكفار في ذلك، ولكن جاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب، ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته، ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمة، وأخبرهم أن موتا في سبيل الله وقتلا في الله خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ويتأخرون عن لقاء العدو. والله أعلم