تفسير سورة آل عمران 179-180
{مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
{مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ} أي ليترك ليدع {الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من التباس المؤمن منكم بالمنافق، فلا يعرف هذا من هذا {حَتَّى يَمِيزَ} يميز ويظهر {الْخَبِيثَ} وهو المنافق المتستر {مِنَ الطَّيِّبِ} وهو المؤمن المخلص، وهذا التفريق يحصل بالامتحان والابتلاء، فيبتليكم ليظهر الصادق من المنافق ويتميز، كما حصل يوم أحد عند لقاء العدو، تميزوا فظهر الصادق من المنافق، فرجع المنافقون، وبقي المؤمنون الصادقون مع النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} لأنه لا يعلم الغيب أحد غيرَ الله {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي} أي يختار ويصطفي {مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} فيطلعه على بعض علم الغيب، هذه كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
قال الطبري رحمه الله: وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء، كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد، وجهاد عدوه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، غير أنه -تعالى ذكره- يجتبي من رسله من يشاء، فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إليه ورسالته. انتهى
{فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} الله بطاعته {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثواب عظيم
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
{وَلَا يَحْسَبَنَّ} ولا يظنن {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} يبخلون بأموالهم التي رزقهم الله فلا يخرجون منها حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: ولا يظن هؤلاء البخلاء أن البخل بحق الله الذي فرضه عليهم في أموالهم؛ خير لهم عند الله يوم القيامة {بَلْ هُوَ} يعني: البخل {شَرٌّ لَهُمْ} في الآخرة {سَيُطَوَّقُونَ} أي: سيجعل الله ما بخل به المانعون الزكاة طوقاً في أعناقهم، كهيئة الأطواق المعروفة {مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه كالطوق يوم القيامة تنهشه.
أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ: (لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) " الآيَةَ. انتهى
(مُثّل له) صُير له (شجاعاً) الحية الذكر أو الثعبان (أقرع) لا شعر على رأسه لكثرة سمه (زبيبتان) نابان يخرجان من فمه أو نقطتان سوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه (يطوقه) يجعل في عنقه كالطوق (شدقيه) جانبي الفم.
{وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني: أنه الحي الذي لا يموت، والباقي بعد فناء جميع خلقه وزوال أملاكهم، فيموتون ويرثهم {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أخبر تبارك وتعالى أنه بما يعمل هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل، وغيرُهم من سائر خلقه، ذو خبرة وعلم، محيط بذلك كله، حتى يجازي كلا منهم على قدر استحقاقه المحسن والمسيء.