تفسير سورة النساء 135-136
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } يعني: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني بالعدل {شُهَدَاءَ لِلهِ} أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من التحريف والتبديل والكتمان {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، قال ابن كثير: أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه {أَوِ} على {الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} في الرحم، أي: قولوا الحق واشهدوا به ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين، فأقيموا الشهادة عليهم لله، وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} منكم، أي: أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنياً، وللمشهود له وإن كان فقيراً، فالله أولى بهما منكم، أي: كِلوا أمرهما إلى الله. قال ابن كثير: أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم؛ على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} {وَإِنْ تَلْوُوا} أي: تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق {أَوْ تُعْرِضُوا} عنها فتكتموها ولا تقيموها {فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي ذا خبرة وعلم به، وسيجازيكم عليه، يحفظ ذلك عليكم حتى يجازيكم به ، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، يقول: فاتقوا ربكم في ذلك.
قال أهل العلم المعنى المقصود من الآية: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقوموا فيها بالعدل، واشهدوا بالحق، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، فلا يدفعكم غنى من شهدتم له، أو فقرُه أو قرابتُه ورحمُه منكم؛ على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها.
فهي أمر بأداء الشهادة بالحق على الجميع.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمَن قبل محمدٍ من الأنبياء والرسل؛ كموسى وعيسى، وصدقوا بما جاءوهم به من عند الله {آمِنُوا بِاللهِ} رباً ومعبوداً بحق دون من سواه {وَرَسُولِهِ} أنه رسول الله إليكم جميعاً {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يعني القرآن {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} من التوراة والإنجيل والزَّبور وسائرِ الكتب {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} قال الطبري: معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوته، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه؛ وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} بعقب -أي بعد- خطابه أهل الكتاب، وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ تهديداً منه لهم، وهم مقرون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان. انتهى
هذا قول في تفسير الآية والقول الثاني أن الخطاب للذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه. انتهى
يعني أمر المؤمنين بالإيمان مع أنهم مؤمنون، لإكمال الإيمان والثبات عليه، لا للدخول فيه فهم دخلوا فيه وانتهى الأمر.
فالأمر بالشيء تارة يأتي للدخول في الشيء وهذا يخاطب به من لم يدخل فيه، وتارة لإكماله والثبات عليه، وهذا يخاطب به من دخل فيه. والله أعلم