تفسير سورة النساء 148-152
{لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) }
{لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم فلا يكره الله له ذلك، وقد رخص له فيه، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن الظالم أنه ظلمه، وأن يدعو عليه، وينتصر لنفسه منه، فيشتمه بمثل ما شتمه مثلاً، وإن صبر فهو خير له، قال الله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا} لما تقولون من خير وشر {عَلِيمًا} بكل شيء، ومن ذلك أقوالكم وأعمالكم، وسيجازيكم عليها، المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه.
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} يعني: إن تعملوا عملاً صالحاً جهراً {أَوْ تُخْفُوهُ} أو تتركوا إظهار ذلك فلا تبدوه {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي تعفو عمن أساء إليكم {فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا} لم يزل ذا عفو عن خلقه، يتجاوز عمن عصاه وخالف أمره {قَدِيرًا} ذا قدرة على الانتقام منهم، يعني: أن الله لم يزل ذا عفو يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه.
يقول: فاعفوا أنتم أيضاً أيها الناس عمن ظلمكم، ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم وأنتم تعصونه وتخالفون أمره.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) }
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ} من اليهود والنصارى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} أي في الإيمان، بأن يؤمنوا بالله ويكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بالوحي {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} نصدق ببعض الرسول، ونكذب ببعضهم، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا} بتفريقهم بين الله ورسوله، وإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض {بَيْنَ ذَلِكَ} بين الإيمان بالكل، والكفر بالكل {سَبِيلًا} يعني ديناً محدثاً، طريقاً إلى الضلالة التي أحدثوها والبدعة التي ابتدعوها، وهي الإيمان ببعض والكفر ببعض.
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) }
أي أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفر بي، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقاً، فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنكم في أمرهم؛ دعواهم أنهم يقرون ببعض الكتب والرسل، فإنهم في دعواهم ذلك كذبة، فلو أنهم حقيقة مؤمنون بموسى والتوراة، أو بعيسى والإنجيل؛ لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أيضا وبالقرآن؛ لأن مما جاء به موسى وعيسى، ومما جاء في كتبهم: الأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهكذا جميع الرسل وكتبهم فيها وجوب الإيمان بجميع رسل الله وكتبه، فمن كفر بواحد فهو كافر بالكل، فكلها يأمر بالإيمان بالكل، فهم في الحقيقة مكذبون لمن زعموا أنهم يؤمنون بهم {وَأَعْتَدْنَا} أي واعددنا {لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} ذا إهانة وخزي، وهو عذاب النار.
قال قتادة: "أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى؛ وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله ". انتهى
وهذه الآية فيها رد على دعاة وحدة الأديان اليوم، والذين لا يكفرون أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فكل من لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله؛ فهو كافر، مخلد في نار جهنم، إذا مات على ذلك، ومن لم يكفره فهو مكذب بهذه الآية وغيرها من الآيات الصريحة في كفر أهل الكتاب، فهو كافر مثلهم بإجماع أهل العلم.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) }
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} كلهم {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: لم يفرقوا بين أحد من الرسل فآمنوا بهم جميعاً، وهم المؤمنون، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله {أُولَئِكَ} الذين آمنوا بالله ورسله كلهم {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} يعطيهم {أُجُورَهُمْ} ثوابهم على إيمانهم بالله وكتبه ورسله {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا} يغفر لمن فعل ذلك من خلقه ذنوبه، فيستر عليه ولا يعاقبه؛ فإنه لم يزل لذنوب المنيبين من خلقه {غَفُورًا رَحِيمًا} يعني: ولم يزل بهم رحيماً، بتفضله عليهم بهدايتهم إلى سبيل الحق وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رقابهم من النار.