تفسير سورة النساء 155-159
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}
هذه من الذنوب التي ارتكبوها، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} أي: فبسبب نقضهم عهودهم المؤكدة التي أخذها الله عليهم؛ لعنهم الله {وَ} بسبب {كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ} وهي أدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله، وكون ما جاءوهم به من عنده حق {وَ} بسبب {قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير ذنب ارتكبوه استحقوا القتل عليه، بل قتلوهم ظلماً وعدواناً {وَ} بـ {قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} يعني يقولون: قلوبنا عليها أغطية فلا يصلها ما تدعونا إليه، فلا نفهم ما تقول {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا} أي: ختم الله على قلوبهم {بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرهم عقوبة لهم {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} يعني: لا يؤمن ممن كذب الرسل إلا قليلاً، لا ممن طُبع على قلبه بل ممن كذب الرسل؛ لأن من طبع الله على قلبه لا يؤمن أبداً، وأراد بالقليل: عبد الله بن سلام وأصحابه ومن كان مثلهم.
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)}
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} وهو الزنا، حين رموها بالزنا كذبوا عليها. يقال: بهته: إذا قال عليه ما لم يفعل.
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ} يفتخرون بفعلهم هذا الشنيع الذي ظنوا أنهم فعلوه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي لم يقتلوا عيسى ولا صلبوه، بل رفعه الله إليه، ولكنهم قتلوا شخصاً آخر يشبهه فظنوه هو، قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا} من اليهود والنصارى {فِيهِ} في قتل عيسى عليه السلام {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي: لفي شك وحيرة من قتله {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} من حقيقة أنه قتل أو لم يقتل {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} لكنهم يتبعون الظن في قتله. قال الله جل جلاله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي: ما قتلوا عيسى متيقنين أنه هو، بل شاكين.
{بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}
{بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} بل الحقيقة أن الله رفع عيسى إليه، ولم يقتلوه {وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا} منيعاً {حَكِيمًا} ذا حكمة في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها.
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي بعيسى عليه السلام {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي بعد نزوله في آخر الزمان وقبل موت عيسى، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: " وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] ". انتهى
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} يعني: عيسى عليه السلام {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أنه قد بلغهم رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه.