تفسير سورة المائدة 64-66
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} أي: محبوسة مقبوضة من الرزق، نسبوه إلى البخل، يعنون أنه -سبحانه- يبخل عليهم، ولا يوسع عليهم في الرزق، هذا خبر من الله تبارك وتعالى عن جراءة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخاً لهم بذلك {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي: أمسكت أيديهم عن الخيرات، ولعنوا، وأبعدوا من رحمة الله وفضله {بِمَا قَالُوا} أي بسبب ما قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} بالبذل والعطاء من كرمه تبارك وتعالى، ويدا الله صفة من صفاته تبارك وتعالى؛ كصفة السمع، والبصر، والوجه، وهي صفات له تليق بجلاله وعظمته لا تماثل صفات المخلوقين، نثبتها له ولا نسأل عن كيفيتها؛ لأن الله تبارك وتعالى أخبرنا أن له هذه الصفات، ولم يبين لنا كيفيتها، فنؤمن بما أخبرنا به منها، ونسكت عما لم يخبرنا به، هذه العقيدة التي علمناها السلف رضي الله عنهم الذين أمرنا باتباعهم {يُنْفِقُ} يرزق {كَيْفَ يَشَاءُ} يعطي هذا ويمنع هذا بحكمة، فيضع الأمور في موضعها المناسب لها {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} اليهود {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِنْ رَبِّكَ} من آيات {طُغْيَانًا} قال الطبري: يعني بالطغيان: الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والتمادي في ذلك {وَكُفْرًا} أي: كلما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم آية كفروا بها؛ فازدادوا بالكفر بها طغياناً وكفراً {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} بين طوائف اليهود أنفسهم، جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، وقال البعض: ألقى العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} باقية العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا} أشعلوا ناراً {لِلْحَرْبِ} لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَطْفَأَهَا اللهُ} يعني: أذلهم الله، ونصره عليهم، قال ابن كثير: أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا -أي دبروا- أموراً يحاربونك بها، أبطلها الله ورد كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيئ بهم {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} ويعمل هؤلاء اليهود بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيهم فيها بالفساد {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} والله لا يحب من كان عاملا بمعاصيه في أرضه.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {آمَنُوا} بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فصدقوه واتبعوه واتبعوا ما أنزل عليه {وَاتَّقَوْا} الكفر وما نهاهم الله عنه فاجتنبوه {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لمحونا عنهم ذنوبهم، فغطينا عليها ولم نفضحهم بها {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ولأدخلناهم بساتين ينعمون فيها في الآخرة.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} يعني: أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني: القرآن {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قيل: من فوقهم هو المطر، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض. وقالوا: لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض. قال الفراء: أراد به التوسعة في الرزق، كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} يعني: مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه، مقتصدة أي عادلة غير غالية، ولا مقصرة جافية. ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} ككعب بن الأشرف وأصحابه {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} بئس ما يعملون، بئس شيئا عملهم، قالوا: عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم.