تفسير سورة المائدة 101-105
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللَهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}
أخرج البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا".
وأخرج البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ: فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ، قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. قَالَ: فَقَامَ ذَاكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ فُلَانٌ». فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]
قال ابن كثير: هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} صدقوا بالله ورسوله واتبعوا شرعه {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي: إن تظهر لكم تسؤكم، أي: إن أمرتم بالعمل بها شقت عليكم وضيقت عليكم {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} معناه وإن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من الأحكام مجمل يحتاج بياناً، ليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة، واحتجتم إلى معرفته للعمل به، فإذا سألتم عنها حينئذ تبد لكم {عَفَا اللهُ عَنْهَا} أي ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: لم يزل بالمغفرة موصوفاً، وبالحلم والإحسان معروفاً، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه، واطلبوه منه بطاعته.
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين أي بسببها، أي بينت لهم فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد.
{مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}
هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئاً من مواشيهم محرماً، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله.
{مَا جَعَلَ اللهُ} أي: ما أمر بذلك، ولا شرعه {مِنْ بَحِيرَةٍ} البحيرة هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها، أي: شقوها، وتركوا الحمل عليها ولم يركبوها، ولم يجُزوا وبرها، ولم يمنعوها الماء والكلأ، يتقرب بهذا الفعل {وَلَا سَائِبَةٍ} السائبة البعير الذي يُسيب، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب له قريب؛ نذر فقال: إن شفاني الله تعالى أو شفى مريضي أو عاد غائبي؛ فناقتي هذه سائبة، ثم يسيبها فلا تُحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد، فكانت بمنزلة البحيرة {وَلَا وَصِيلَةٍ} الوصيلة: من الغنم، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه، وكان لبن الأنثى حراما على النساء، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا {وَلَا حَامٍ} الحام: هو الفحل إذا رُكب ولدُ ولده، ويقال: إذا نتج من صلبه عشرةُ أبطن، قالوا: حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يُمنع من كلأ ولا ماء، فإذا مات أكله الرجال والنساء.
هكذا قال أهل العلم، وأخرج البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب قَالَ: إِنَّ الْبَحِيرَةَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا-أي لبنها- لِلطَّوَاغِيتِ-لأجلهم تقرباً لهم-، فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا السَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ». انتهى
فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله.
{وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} من هؤلاء المشركين الذين فعلوا ذلك {يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} يكذبون على الله في قولهم: أمرنا الله بها {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وأكثر المشركين لا يعلمون أن ذلك التحريم الذي حرمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى؛ كذب وباطل، هذا وصف للجهلة من المشركين الأتباع، أما رؤوسهم فيعلمون أنهم كذبة مفترون.
قال الطبري رحمه الله: هم أتباع من سن لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون؛ لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن، وأخبروهم أنها من عند الله؛ كذبة في أخبارهم أفكة، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقون في أخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى كذب وباطل. انتهى والله أعلم
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} وإذا قيل لهؤلاء الذين يَبْحَرُونَ البحائر ويُسيِّبون السوائب من المشركين؟ {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ} وهو القرآن {وَإِلَى الرَّسُولِ} محمد صلى الله عليه وسلم، أي إلى الكتاب والسنة، تعالوا إليهما ليتبين لكم كذب ما تقولونه وتكذبون به على الله من تحريمكم ما تحرمون من هذه الأشياء، وكي تعلموا ما أحل الله وما حرم بحق، فأجابوا من دعاهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {قَالُوا حَسْبُنَا} كافينا {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من الدين، نحن لهم تبع، وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل، فأبوا الإيمان بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعهما، واكتفوا باتباع آبائهم، فقال الله تبارك وتعالى: {أَ} حسبهم آباؤهم {وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} الذين يتبعونهم {لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا} جهالاً لا يفهمون حقاً {وَلَا يَهْتَدُونَ} إلى طريق الحق فهم ضلال، فكيف يُتبع من هذا وصفه؟!
قال ابن كثير: أي لا يفهمون حقاً ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟! لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً. انتهى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي اجتهدوا في إصلاح أنفسكم.
يأمر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ويخبرهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً.
استدل بعض الجهال على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الآية، فقال أهل العلم: وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكناً.
أخرج أبو داود وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» وَفي رواية: وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا، إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ»
وقال غير واحد من السلف هذه الآية في آخر الزمان عندما نرى شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وصحح الطبري كلا المعنيين {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُمْ} فيخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من خير وشر، ويحاسبكم عليه ويجازي كل بعمله.