تفسير سورة الأنعام 56-59
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}
{قُلْ} يا محمد للمشركين الذين يدعونك إلى عبادة الأوثان التي يعبدونها {إِنِّي نُهِيتُ} أي نهاني ربي تبارك وتعالى {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِنْ دُونِ اللهِ} من غير الله {قُلْ} لهم {لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} في عبادة الأوثان {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} إن فعلت ذلك {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} يعني: إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى.
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)}
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أي بالحق الذي جاءني من الله {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أراد به استعجالهم بالعذاب، كانوا يقولون: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32] الآية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ} أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي يقص القصص الحق، وفي قراءة يقضي، أي: يحكم بالحق بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} أي وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده.
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي} وبيدي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: فرغ من العذاب وأُهلكتم، أي: لعجلته حتى أتخلص منكم {وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} مفاتح الغيب: خزائنه، ومَفَاتِحَ جمع مِفتَح، ومِفْتَاحٌ جَمَعَهُ مَفَاتِيحَ ، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ، لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ: لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللهُ ".
وفي صحيح مسلم في حديث جبريل بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة، قال: فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللهِ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] ". انتهى
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} من النبات والدواب وغير ذلك {وَالْبَحْرِ} من الحيوان والجواهر وغيرهما، قال ابن كثير: أي محيط علمه الكريم بجميع الموجودات، بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} يريد ورقة شجر ساقطة وثابتة، يعني: يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} هو الحب المعروف في بطون الأرض {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} قيل: ما ينبت وما لا ينبت، وقيل: ولا حي ولا ميت، وقيل: هو عبارة عن كل شيء؛ لأن جميع الأشياء إما رطبة أو يابسة {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يعني أن الكلَّ مكتوب في اللوح المحفوظ.