تفسير سورة الأنعام 112- 117
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} أي: أعداء. فيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني كما ابتليناك بهؤلاء القوم، فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء ابتليناهم بهم، فاصبر كما صبروا، ثم فسرها فقال: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} إن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين، والشيطان: العاتي المتمرد من كل شيء، قال أحد علماء السلف: إن شياطين الإنس أشد عليّ من شياطين الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شياطين الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عَيانا {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: يلقي شياطين الجن القول الباطل لشياطين الإنس ويزينونه ليخدعوا به الناس {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} وهو قول محسن مزين مزخرف بالباطل لا معنى تحته، يقال: زخرف كلامه وشهادته: إذا حسن ذلك بالباطل، فيحسنون كلامهم الباطل ويزينونه كي يقبله الناس {غُرُورًا} يعني: هؤلاء الشياطين يزينون الباطل ليخدعوا به العباد، فالزخرف: المزين، وأما الغرور: فإنه ما غر الإنسان فخدعه فصده عن الصواب إلى الخطأ، ومن الحق إلى الباطل {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي: لو شاء الله ما أوحى الشياطين إلى الإنس{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي اتركهم وما يكذبون، وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، أي تميل قلوب الكفار إلى زخرف القول، الصغو: الميل {وَلِيَرْضَوْهُ} ويحبونه ويرضون به {وَلِيَقْتَرِفُوا} وليكتسبوا من الأعمال {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} ما هم مكتسبون، أي ليعملوا ما هم عاملون.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ} أي: قل لهم يا محمد أي للمشركين: أفغير الله {أَبْتَغِي} أطلب {حَكَمًا} قاضياً بيني وبينكم {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} القرآن {مُفَصَّلًا} مبيناً فيه الحق من الباطل {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: علماء اليهود والنصارى الذين آتيناهم التوراة والإنجيل {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} يعني: يعلمون أن القرآن منزل{مِنْ رَبِّكَ} من الله تبارك وتعالى {بِالْحَقِّ} فكل ما جاء في القرآن حق وصدق، وهو ضد الباطل، وهم يعلمون ذلك بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} من الشاكين، ولاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك، ولكن هذا كقوله تعالى { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)} [يونس: 94] ، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}
{وَتَمَّتْ} وكملت { كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا} في الأخبار {وَعَدْلًا} في الأحكام، قال قتادة: صدقاً فيما قال، وعدلاً فيما حكم. قال ابن كثير: فكل ما أخبر به فحق، لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، كما قال: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خُلْف لوعده {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال عباده {الْعَلِيمُ} بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كلُّ عامل بعمله.
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)}
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الله، وذلك أن أكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} يريد أن دينهم الذي هم عليه ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يكذبون.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) }
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} بمن يضل {عَنْ سَبِيلِهِ} عن دينه الحق {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أخبر أنه أعلم بالفريقين: الضالين والمهتدين؛ فيجازي كلاً بما يستحقون.