تفسيرسورة الأنعام (158-160)
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) }
{هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: هل ينتظرون بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} لقبض أرواحهم، أو بالعذاب{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} إتياناً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته، لا كإتيان المخلوقين، يأتي لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} يعني طلوع الشمس من مغربها {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} تطلع الشمس من مغربها {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} أي: لا ينفعهم الإيمان إذا لم يكونوا آمنوا قبل ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملاً به قبل ذلك، يريد: لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس؛ آمنوا أجمعون، فذلك حين: { لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } [الأنعام: 158]. انتهى {قُلِ} لهم يا محمد {انْتَظِرُوا} أيها الكفار {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} بكم العذاب، هذا تهديد شديد للكافرين.
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) }
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي: جعلوا دين الله أدياناً متعددة، بعد أن كانوا مجتمعين على دين واحد؛ على التوحيد والعمل بشريعته{وَكَانُوا شِيَعًا} أي: صاروا فرقاً مختلفة.
وهي آية عامة تشمل اليهود والنصارى والمشركين، وكذلك تشمل أهل البدع من هذه الأمة.
قال الطبري: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق، وفرقه، وكانوا فرقاً فيه وأحزاباً شيعاً، وأنه ليس منهم ولا هم منه؛ لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 161]، فكان من فارق دينه الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثني ويهودي ونصراني، ومتحنف مبتدع، قد ابتدع في الدين ما ضل به عن الصراط المستقيم والدين القيم، ملة إبراهيم المسلم؛ فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء، وهو داخل في عموم قوله: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. انتهى
عن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا: فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة». أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "الجماعة"، وفي رواية: قال: "ما أنا عليه وأصحابي» أخرجه الترمذي وغيره {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي أنت منهم بريء وهم منك برآء، تقول العرب: إن فعلتَ كذا فلست مني ولست منك، أي: كل واحد منا برئ من صاحبه {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ} حكمهم إلى الله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ} يخبرهم {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} يوم القيامة؛ فأجازي كلاًّ منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون، المحسن منهم بالإحسان والمسيء بالإساءة.
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} بالطاعة { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أجر مضاعف {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} بالمعصية {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} فلا تضاعف السيئة {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها الله سيئة واحدة». متفق عليه.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ". متفق عليه.
قال ابن كثير: واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام:
1- تارة يتركها لله؛ فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح، "فإنما تركها من جرائي"؛ أي من أجلي.
2- وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها؛ فهذا لا له ولا عليه؛ لأنه لم ينو خيراً ولا فعل شراً.
3- وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها؛ فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه». انتهى باختصار.