تفسير سورة الأعراف (113-126)
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)}
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} واجتمع السحرة عند فرعون {قَالُوا} أي السحرة لفرعون {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} أي: مالاً {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} أي هل ستعطين مالاً إذا غلبنا موسى؟
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)}
{قَالَ} فرعون {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} منيّ في المنزلة مع الأجر.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)}
{قَالُوا} يعني السحرة {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} عصاك {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} لعصينا وحبالنا، يعني إما أن تبدأ أنت أو نبدأ نحن برمي العصي والحبال حتى تتحول.
{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}
{قَالَ} موسى بل {أَلْقُوا} أنتم {فَلَمَّا أَلْقَوْا} السحرة حبالهم وعصيهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي: صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، هذا هو سحرهم؛ خداع وتخييل {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أي: أرهبوهم وأفزعوهم؛ لأنهم ظنوا أن العصي والحبال حيات {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} بتخييل عظيم كبير من التخييل والخداع، وذلك أنهم ألقوا حبالاً وخشباً، فإذا هي حيات وأفاعي في أعين الناس.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)}
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ارمها، فرماها؛ فصارت حية عظيمة {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} أي: تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يكذبون من التخاييل.
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)}
{فَوَقَعَ الْحَقُّ} فظهر الحق {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من السحر.
{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)}
{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} فغلب موسى فرعون ومن معه في ذلك الموقف {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ورجعوا ذليلين مقهورين.
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) }
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} ووقع السحرة بعدما رأوا من عظيم قدرة الله {سَاجِدِينَ} لله تعالى.
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)}
أي آمنا بالله خالق كل المخلوقات ومدبر أمرهم ومالكهم والذي يستحق أن نعبده.
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}
ربِّ العالمين خالقِ موسى وهارون ومعبودِهما، لا فرعون.
قال ابن كثير: فكان هذا أمراً عظيماً جدا، وبرهاناً قاطعاً للعذر، وحجة دامغة، وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يَغلبوا، غُلبوا وخضعوا، وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فغُلِب فرعونُ غَلَباً لم يشاهد العالمُ مثلَه، وكان وقحَاً جريئاً، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهددهم ويتوعدهم، ويقول {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه: 71]، وقال {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} الآية.
{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}
{قَالَ} لهم {فِرْعَوْنُ} حين آمنوا {آمَنْتُمْ بِهِ} أي بموسى وأنه مرسل من رب العالمين {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان به، يعني كيف تؤمنون به من غير إذني؟ {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ} أي: صنيع صنعتموه وخدعة دبرتموها أنتم وموسى: {فِي الْمَدِينَةِ} في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} رجع إلى التلبيس والكذب {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما أفعل بكم.
السحر، قال ابن قدامة: وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ، أَوْ عَقْلِهِ، مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ لَهُ. وَلَهُ حَقِيقَةٌ، فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ، وَمَا يُمْرِضُ، وَيَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَيَمْنَعُهُ وَطْأَهَا، وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمَا يُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ، أَوْ يُحَبِّبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. انتهى
وهو نوعان: تخييلي كهذا الذي فعله سحرة فرعون.
وعملي: له حقيقة وأثر؛ كالذي ذكر في سورة البقرة ، خالف في هذا النوع بعض أهل البدع، ونُقل عن أبي حنيفة.
دل القرآن الكريم وهو كلام الله -عز وجل- على أن السحر موجود، بعضه تخييل، وبعضه له حقيقة وأثر.
قال ابن باز رحمه الله: فالسحر حقيقة، لكن بعضه تخييل وتلبيس، ولا حقيقة له واقعية، كما جرى من السحرة فيما فعلوا من التخييل بالحبال والعصي، ويقع بعضه مؤثراً كما ذكرنا في سورة البقرة، أن السحرة يتعلمون منهما... الملكين : {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}.
لكن بإذن الله، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة:102]، أي: بإذن الله الكوني القدري، فهذا يدل على أنه قد يقع منه ضرر، وقد يحصل منه بسببه تفريق بين الرجل وزوجته، ولكن كثير من الناس قد يتوهموا هذا الشيء، ويظنوا أنه سحر، وليس بسحر، ولكنها أوهام ووساوس. انتهى باختصار.
وإنكار السحر مطلقاً كفر فهو تكذيب بكل أدلته.
ونقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على تحريم عمل السحر وتعلمه وتعليمه، منهم ابن قدامة. وخالف في هذا بعض أهل البدع.
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}
{لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} يعني سيعاقبهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف بمعنى اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس.
{ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ} على جذوع النخل {أَجْمَعِينَ} سأفعل هذا بكم جميعاً.
{قَالُوا} قال السحرة الذين آمنوا {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} أي: إنا إلى ربنا راجعون؛ فلا نبالي بعقوبتك، فالله خير وأبقى، فاقض ما أنت قاض.
{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}
{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} أي: وما تنكر منا يا فرعون وتجد علينا {إِلا أَنْ آمَنَّا} بآيَاتِ ربنا لما جاءتنا.
ثم دعوا الله أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ} أي: أفض وصب {عَلَيْنَا صَبْرًا} عظيماً تثبتنا به على الإيمان.
{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي: منقادين لأمرك، متبعين لرسولك.
قال السعدي: والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه، وأن الله تعالى ثبتهم على الإيمان. انتهى
قال غير واحد من السلف: كانت السحرة أول النهار سحرة، وآخر النهار شهداء.