تفسير سورة الأنفال (15-19)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إذا قابلتم الكفار في القتال {زَحْفًا} أي: متقاربين، تقاربتم منهم. قال الطبري: متزاحفاً بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني والتقارب. انتهى {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} يقول: فلا تولوهم ظهوركم، يعني لا تلتفتوا وتعطوهم ظهوركم لتفروا، أي: لا تنهزموا. قال الطبري: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم فإن الله معكم عليهم.
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} في المعركة، قال أبو سعيد الخدري: " نَزَلَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ" {دُبُرَهُ} ظهره، أي ومن يلتفت ويجعل ظهره للعدو في القتال ليفر منه {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي: إلا أن يلتفت ويجعل ظهره للعدو ليخدعهم فيظهر لهم أنه يريد الفرار، وهو في الحقيقة يريد قتالهم {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أو يريد الالتحاق بجماعة أخرى من المؤمنين للقتال معهم فيجوز له ذلك.
ومعنى الآية: النهي عن الانهزام من الكفار في المعركة إلا على نية التحرف للقتال، والانضمام إلى جماعة من المسلمين للقتال، فمن أراد الفرار من القتال ولا يريد العودة إليه؛ لحقه الوعيد، كما قال تعالى: {فَقَدْ بَاءَ} رجع {بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ} ومصيره الذي يصير إليه يوم القيامة {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وبئس الموضع الذي يصير إليه.
وقد أحسن الشيخ السعدي رحمه الله فيما قاله في بيان الحكم الذي يؤخذ من هذه الآية، قال: وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد.
ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى، ليكون أمكن له في القتال، وأنكى لعدوه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه لم يول دبره فارا، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته، أو ليخدعه بذلك، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين.
وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار، فإن ذلك جائز، فإن كانت الفئة في العسكر، فالأمر في هذا واضح، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين، والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين، أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين؛ فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة، وأبقى عليهم.
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها؛ لأنه - على هذا - لا يُتصور الفرار المنهي عنه.
وهذه الآية مطلقة، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد. انتهى يشير الشيخ إلى قوله تعالى في هذه السورة: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) }
قال ابن كثير رحمه الله : يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه، ولهذا قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم، أي بل هو الذي أظفركم عليهم {وَمَا رَمَيْتَ} أيها الرسول {إِذْ رَمَيْتَ} حين رميت وجوه المشركين يوم بدر بالحصى {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} فهو الذي أوصل الحصى إلى وجوه المشركين، جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفًّا من حصى، فرمى به وجوه القوم، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الآية. الأحاديث فيها ضعف، وبعض أهل العلم قواها بشواهدها {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} أي: ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ} لدعائكم {عَلِيمٌ} بنايتكم.
قال الطبري: ولينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم، ويُغنِمَهم ما معهم، ويُثبِت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك البلاء الحسن: رمي الله هؤلاء المشركين. ويعني بالبلاء الحسن: النعمة الحسنة الجميلة، وهي ما وصفت، وما في معناه. انتهى
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
{ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن {وَأَنَّ اللهَ} واعلموا أن الله {مُوهِنُ} مُضعف {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} يعني مكرهم، حتى يَذلِّوا، وينقادوا للحق ويَهلكوا.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}
قَالَ الزهري: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، قَالَ: " كَانَ الْمُسْتَفْتِحَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُو جَهْلٍ، وَإِنَّهُ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، وَآتَى لِمَا لَا نَعْرِفُ؛ فَافْتَحِ الْغَدَ، وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]
معنى فافتح الغد أي اقضِ بيننا واحكم غداً يعني يوم بدر، فانصر المظلوم على الظالم.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} أيها المشركون، أي: تطلبوا من الله أن يحكم بينكم ويوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين، وينصر المظلومين {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} حين أوقع الله بكم من عقابه، ما كان نكالاً لكم، وعبرة للمتقين. قال قتادة: قد كانت بدرٌ قضاءً وعبرةً لمن اعتبر. وقال الطبري: إن تستحكموا الله على أقطعِ الحزبين للرحم، وأظلمِ الفئتين، وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكمُ الله ونصرُه المظلومَ على الظالم، والمحقَّ على المُبطل {وَإِنْ تَنْتَهُوا} وإن تنتهوا يا معشر قريش وجماعة الكفار عن الكفر بالله ورسوله، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به {فَهُوَ خَيْرٌ} في دنياكم وآخرتكم {وَإِنْ تَعُودُوا} وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين {نَعُدْ} لنصرهم عليكم.
{وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} أي: أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون معتمدين عليهم، لن ينفعوكم بشيء ولو كانوا كثيري العدد {وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} ينصرهم على أعدائهم الكافرين.