تفسير سورة الأنفال (20-25)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}
قال ابن كثير: يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له. انتهى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله واتبعوا الرسول {أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} بامتثال أمره واجتناب نهيه {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي: لا تعرضوا عن الرسول بمخالفة أمره وإتيان نهيه {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أمره إياكم ونهيَه، وأنتم مؤمنون به.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}
{وَلَا تَكُونُوا} أيها المؤمنون {كَـ} الكفار {الَّذِينَ قَالُوا} إذا سمعوا القرآن: {سَمِعْنَا } بآذاننا {وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي: يقولون بألسنتهم سمعنا بآذاننا، وهم لا يسمعون، أي: لا يتعظون، ولا ينتفعون بما سمعوا؛ فكأنهم لم يسمعوا.
قال الطبري رحمه الله: يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم، ولا ينتفعون به لإعراضهم عنه، وتركِهم أن يُوعُوهُ قلوبَهم ويتدبرُوه، فجعلهم الله لمَّا لم ينتفعوا بمواعظ القرآن- وإن كانوا قد سمعوها بآذانهم- بمنزلة من لم يسمعها.
يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم؛ كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم، ويقولون: قد سمعنا، وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون، كمن لم يسمعها. انتهى
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} أي: إن شر من دب على وجه الأرض من خلق الله {الصُّمُّ الْبُكْمُ} عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، ولا يقولونه، ولا يتبعونه {الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أمر الله عز وجل، سماهم (دواب) لقلة انتفاعهم بعقولهم، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} أي: لأسمعهم سماع التفهم والقبول {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} بعد أن علم أن لا خير فيهم؛ ما انتفعوا بذلك {لَتَوَلَّوْا} عن الطاعة {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره والعلم به.
قال السعدي: لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه، وهذا دليل على أن الله تعالى لا يمنع الإيمان والخير، إلا لمن لا خير فيه، الذي لا يزكو لديه ولا يثمر عنده، وله الحمد تعالى والحكمة في هذا. انتهى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} يقول انقادوا لله ورسوله بالطاعة {إِذَا دَعَاكُمْ} الرسول صلى الله عليه وسلم {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي: إلى ما يحييكم. وما يحييهم هو كل ما دعاهم إليه؛ فكل ما أمر الله ورسوله به ففيه حياة لقلوب العباد وخير لهم.
قال السعدي: وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته؛ فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام. انتهى
أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: " أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ». ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] «هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال جمع من السلف: يحول بين المؤمن أن يكفر، وبين الكافر أن يؤمن، يعني يمنعه منه.
أي يحجز بين العبد وقلبه، وإذا حجز بين العبد وقلبه لم يكن العبد قادراً على إدراك ما منع الله قلبه إدراكه، لا إيمان ولا كفر ولا غيرهما {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم.
أخرج أحمد والترمذي وغيرهما عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ».
وفي صحيح مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».
قال السعدي: ثم حذر من عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.
فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك.
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه. انتهى
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}
قال ابن كثير: يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختباراً ومحنة، يعم بها المسيء وغيرَه، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب، بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع {وَاتَّقُوا} أيها المؤمنون {فِتْنَةً} اختباراً وبلاء يبتليكم به {لَا تُصِيبَنَّ} هذه الفتنة التي حذرتكم منها {الَّذِينَ ظَلَمُوا} الذين فعلوا الذنوب {مِنْكُمْ خَاصَّةً} أخرج أبو داود وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللهُ بِعِقَابٍ».
وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا، إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ».
وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ».
وأخرج الشيخان في صحيحيهما عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ».
وأخرج البخاري في صحيحه عن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، وَالوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ، قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنَ المَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ ".
قال السعدي: بل تصيب -أي الفتنة- فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يُغيِّر، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة -أي اتقاؤها والخلاص منها يكون- بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن خالف أمره.