تفسير سورة الأنفال (26-29)
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) }
يقول تعالى ممتناً على عباده المهاجرين في نصرهم بعد الذِّلة، وتكثيرهم بعد القِلّة، وإغنائهم بعد الفقر والحاجة.
{وَاذْكُرُوا} يا معاشر المهاجرين {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} في العدد {مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} مقهورون في مكة في ابتداء الإسلام {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} أي يذهب بكم الناسُ، يعني تخافون أن يفتك بكم المشركون {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} أي: قواكم يوم بدر ونصركم {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني: الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروه على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه.
قال ابن كثير: ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم، فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسي ورومي، كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره، وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ}، قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وأجوعَه بُطوناً، وأَعرَاهُ جلوداً، وأبينَه ضَلالاً، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَهُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رأيتم؛ فَاشكُرُوا اللهَ على نِعَمَهُ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ، وَأَهْلُ الشُكرِ في مَزيدٍ من اللهِ. انتهى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يقول الله تبارك وتعالى للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله واتبعوه {لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ} بترك ما أمركم به، وفعل ما نهاكم عنه {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} أي: ولا تخونوا أماناتكم، لا تفرطوا فيما ائتمنكم الله عليه من الدين وغيره {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن ما فعلتموه خيانة؛ فتكونوا من الخائنين.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكم الأموال والأولاد ليعلم أتشكرونه عليهم وتطيعونه فيهم، أو تشتغلون بهم عنه {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد؛ فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئاً، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ} بطاعته وترك معصيته {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} مخرجاً في الدنيا والآخرة، ونجاة مما تخافون في الدارين، فيفرق بينكم وبين ما تخافون، ونصراً على أعدائكم، وتوفيقاً، يوفقكم لمعرفة الحق من الباطل، هكذا فسر السلف الفرقان هنا، وكلها حق لا تعارض بينها {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ويغطي ذنوبكم، فيسترها عليكم، فلا يؤاخذكم بها {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والله له الفضل العظيم على الخلق جميعاً، وعلى أهل التقوى خاصة فهذا كله من فضله عليهم تبارك وتعالى.
قال ابن كثير: من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره؛ وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه وهو محوها، وغفرها سترها عن الناس، وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] انتهى
وقال السعدي: امتثال العبد لتقوى ربه عنوانُ السعادة، وعلامةُ الفلاح، وقد رتب الله على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئاً كثيراً، فذكر هنا أن من اتقى الله حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها:
الأول: الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق، وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.
الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه. انتهى