تفسير سورة الأنفال (35-40)
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ} صلاة المشركين {عِنْدَ الْبَيْتِ} العتيق {إِلَّا مُكَاءً} وهو الصفير {وَتَصْدِيَةً} وهي التصفيق. قال ابن إسحاق: ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يدرأ بها عنهم إلا مكاء وتصدية، وذلك ما لا يرضى الله ولا يحب، ولا ما افترض عليهم ولا ما أمرهم به. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال ابن جرير: فذوقوا: أي اطعَموا، وليس بذوق بفم، ولكنه ذوق بالحس، ووجود طعم ألمه بالقلوب. يقول لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون أن الله مُعَذِّبُكُم به على جحودكم توحيد ربكم ورسالة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) }
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} في حرب النبي صلى الله عليه وسلم ودينه {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: ليصرفوا الناس عن دين الله {فَسَيُنْفِقُونَهَا} في حربهم {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي: ندامةً وخزياً وذلاً {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} فتذهب أموالهم وما أمّلوا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي: يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها.
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
{لِيَمِيزَ} أي ليفصل{اللَّهُ الْخَبِيثَ} الكافر {مِنَ الطَّيِّبِ} من المؤمن فينزل المؤمن الجنان والكافر النيران {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أي: فوق بعض {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي: يجمعه فيجعله في جهنم {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) }
{قُلْ} يا محمد {لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} عن الكفر، ويدخلوا في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام، أخرج الشيخان عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ». وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» أخرج مسلم {وَإِنْ يَعُودُوا} أي يستمروا على كفرهم {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} أي فقد مضت سنتنا في الأولين؛ أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)}
{وَقَاتِلُوهُمْ} وقاتلوا أيها المؤمنون الكافرين {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لا يوجدَ شرك ولا يفتنَ مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي: ويكون الدين خالصاً لله وحده، ليس فيه شرك {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا تخفى عليه منهم خافية.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) }
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإيمان، واستمروا على خلافكم ومحاربتكم {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} ناصركم ومعينكم {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه.