تفسير سورة الأنفال [50-54]
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
{وَلَوْ تَرَى} ولو تشاهد أيها الرسول {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} حين تقبض الملائكة أرواح الذين كفروا بآيات الله، فتنزعها من أجسادهم.
والملائكة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} وجوه الكفار {وَأَدْبَارَهُمْ} وأستاهَهم أي مؤخراتِهم، ويقولون لهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} أي: العذاب الشديد المحرق.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}
ذلك العذاب حصل لكم بسبب أعمالكم، بسبب ما عملتم من المعاصي، وليس ظلماً من ربكم لكم، فالله حرم الظلم على نفسه فلا يظلم أحداً.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فعل هؤلاء المشركون كفعل فرعون وقومه ومَن قبلهم من الأمم، كفروا بآيات الله وكذبوا رسله، فعذبهم الله تبارك وتعالى كما عذب الكفار قبلهم من آل فرعون وغيرهم، فهذه سنة الله فيهم {كَدَأْبِ} كشأن وعادة، فالدأب: هو الشأن والعادة {آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم الكافرة {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} فعاقبهم الله بسبب ذنوبهم {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} لا يُغلب {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصاه.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
{ذَلِكَ} العذاب الشديد الذي عذب الله به الكافرين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم.
{بِأَنَّ} بسبب أن {اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن ازدادوا له شكراً {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الإيمان والطاعة وشكر النعم، إلى الكفر والمعاصي وكفران النعم.
كتبديل كفار مكة نعمة بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بالكفر به ومحاربته وإخراجه من بينهم.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد، إلا بسبب ذنب ارتكبه. انتهى
{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال عباده {عَلِيمٌ} بما في صدورهم وبأفعالهم، وهو مجازيهم ومُثيبُهم على ما يقولون ويعملون، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}.
{كَدَأْبِ} شأن هؤلاء الكافرين كشأن {آلِ فِرْعَوْنَ} أي: فرعون وقومه {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والأمم المكذبة من قبلهم {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} حين جاءتهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} بسبب ذنوبهم.
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ} من المهلَكين المعذَّبين {كَانُوا ظَالِمِينَ} بمعصيتهم لربهم ورسلِه.
قال السعدي: كانوا ظالمين لأنفسهم، ساعين في هلاكها، لم يظلمهم الله، ولا أخذهم بغير جرم اقترفوه، فليحذر المخاطبون أن يشابهوهم في الظلم، فيحل الله بهم من عقابه ما أحل بأولئك الفاسقين.
وقال ابن كثير: أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم، حين كذبوا بآياته، أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم، من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فَاكِهِينَ، وما ظلمهم الله في ذلك، بل كانوا هم الظالمين.