تفسير سورة التوبة 94-96
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [94]}
لما ذَكر تخلفَ المنافقين الأغنياء عن الخروج للقتال مع المسلمين، وأنهم لا عذر لهم، أخبر أنهم سـ {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من سفركم والجهاد الذي كنتم فيه {قُلْ} لهم يا محمد {لا تَعْتَذِرُوا} بالأعذار الكاذبة {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم في اعتذاركم الكاذب.
{قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} قد أخبرنا الله من أمركم وحالكم ما علمنا به كذبَكم، وأنه لا عذر لكم، وهو الصادق في قوله سبحانه.
{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} في الدنيا بعد هذا، هل تتوبون أم تموتون على نفاقكم؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ} تُرجعون بعد موتكم {إِلَى} اللهِ {عَالِمِ الْغَيْبِ} ما غاب عنا من الأشياء فلم نره ولم نشاهده {وَالشَّهَادَةِ} ما رأيناه وشاهدناه، فهو سبحانه عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ} فيخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالذي كنتم تفعلونه في الدنيا من خير وشر، ويجازيكم عليه، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [95]}
{سَيَحْلِفُونَ} أي المنافقون {بِاللَّهِ لَكُمْ} أيها المؤمنون {إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إذا رجعتم إليهم من الغزو الذي كنتم فيه {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي لتتركوهم ولا توبخوهم ولا تعاقبوهم على تخلفهم عن الخروج معكم {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي: فاتركوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق، ولا توبخوهم وتعاقبوهم.
{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي: إنهم قذر خبثاء، ليسوا بأهل لأن يبالى بهم، وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم {وَمَأْوَاهُمْ} مستقرهم في الآخرة ومصيرهم، نار {جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} تكفيهم عقوبةُ جهنم؛ جزاء لهم على ما كانوا يعملون في الدنيا من مخالفة أمر الله.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [96]}.
{يَحْلِفُونَ} أي المنافقون {لَكُمْ} أيها المؤمنون {لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} أي: ولهم أيضا هذا المقصد الآخر منكم، غيرُ مجرد الإعراض، بل يحبون أن ترضَوا عنهم.
{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} فإن حصل ورضيتم عنهم لعدم معرفتكم بصدقهم من كذبهم؛ فلن ينفعهم رضاكم عنهم شيئاً {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله، فالله تبارك وتعالى يعلم سرائرهم ويعلم أنهم خارجون عن طاعته وطاعة رسوله؛ فلا يرضى عنهم ما داموا على ذلك.
قال السعدي رحمه الله: "وحاصل ما ذكره الله أن المنافقين المتخلفين عن الجهاد من غير عذر، إذا اعتذروا للمؤمنين، وزعموا أن لهم أعذارا في تخلفهم، فإن المنافقين يريدون بذلك أن تُعرضوا عنهم، وترضَوا وتقبلوا عذرهم، فأما قبول العذر منهم والرضا عنهم، فلا حبًّا ولا كرامةً لهم.
وأما الإعراض عنهم، فيعرض المؤمنون عنهم، إعراضهم عن الأمور الردية والرجس.
وفي هذه الآيات، إثبات الكلام لله تعالى في قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} وإثبات الأفعال الاختيارية لله، الواقعة بمشيئته تعالى وقدرته في هذا، وفي قوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أخبر أنه سيراه بعد وقوعه، وفيها إثبات الرضا لله عن المحسنين، والغضب والسخط على الفاسقين". انتهى