تفسير سورة يونس 37-52

تفسير سورة يونس 37-52

﴿‌وَمَا ‌كَانَ ‌هَذَا ‌الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧)﴾.


{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا يصح وغير ممكن أن يقول هذا القرآن غير الله، ولا يمكن أن يقوله أحد من عنده افتراء وكذباً، هذا غير ممكن؛ فلا يوجد أحد يقدر على الإتيان بقرآن مثل هذا القرآن، فلا يكون إلا من عند الله ولابد، فالخلق كلهم عاجزون عن الإتيان بمثله.

قال الطبري: "ما يَنْبغي له أن يَتَخرَّصَه -أي يكذبه ويفتريه- أحدٌ مِن عندِ غيرِ اللَّهِ".

وقال: وإنما هذا خبرٌ من اللهِ جلَّ ثناؤه أن هذا القرآنَ مِن عنده، أنزله إلى محمد عبده، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا: هو شِعرٌ وكَهانةٌ. والذين قالوا: إنما يتعلَّمُه محمدٌ مِن يُحنَّسَ الروميِّ.

يقولُ لهم جلّ ثناؤه: ما كان هذا القرآنُ ليختلِقَه أحدٌ مِن عندِ غيرِ اللَّهِ؛ لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق". انتهى

وقال ابن كثير: "هَذَا بَيَانٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَوَجَازَتِهِ وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة؛ لا تكون إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شيء في ذاته ولا في صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ؛ فَكَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ ‌يُفْتَرى ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ} أَيْ مِثْلُ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ الْبَشَرِ". انتهى

{وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكنه من عند الله أنزله مصدقاً لما قبله من الكتب التي أُنزلت على أنبياء الله؛ كالتوراة والإنجيل، أخبرت وبشرت ببعثته صلى الله عليه وسلم وبنزول القرآن عليه، فلما بعث ونزل القرآن أثبت صدقها فيما جاء فيها.

{وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} وبيان الأحكام والْحَلَالِ وَالْحَرَامِ {لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا شك في هذا القرآن أنه من عند الله، وليس كذباً كذبه أحد من الخلق؛ فلا قدرة لهم على ذلك.

﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)﴾

{أَمْ يَقُولُونَ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (أَمْ) بِمَعْنَى الواو، أي: ويقولون، أي ويقول الكفار {افْتَرَاهُ} اخْتَلَقَ مُحَمَّدٌ الْقُرْآنَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، أي جاء به من عنده، وليس هو من عند الله، وكذَّبوه في قوله بأنه من عند الله {قُلْ} لهم يا محمد {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} شِبْهِ الْقُرْآنِ {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} من الخلق {مِنْ دُونِ اللَّهِ} من غير الله؛ لِيُعِينُوكُمْ عَلَى ذَلِكَ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر مثلكم ويتكلم بلسانكم العربي، فإذا عجَزتم جميعاً عن الإتيان بسورة مثلِ سور القرآن؛ تبين لكم أنه لا يمكن لشخص واحد منكم أن يأتي به جميعه، وقد عجزتم جميعاً عن الإتيان بسورة واحدة مثل سوره.

وقد عجَزتم فعلاً ولو استطعتم لفعلتم لشدة عداوتكم له وحرصكم على بيان بطلانه.

قال ابن كثير: "أَيْ إِنِ ادَّعَيْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقُلْتُمْ كَذِبًا وَمَيْنًا "إِنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ"؛ فَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَقَدْ جَاءَ فِيمَا زَعَمْتُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، أَيْ من جنس هذا الْقُرْآنِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ.

وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي التَّحَدِّي فَإِنَّهُ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاؤوا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ".

وقال: "هَذَا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَأَشْعَارِهِمْ وَمُعَلَّقَاتِهِمْ إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، وَلِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَحَلَاوَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ وَإِفَادَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ، فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ، وَأَفْهَمَهُمْ لَهُ، وَأَتْبَعَهُمْ لَهُ، وَأَشَدَّهُمْ لَهُ انْقِيَادًا.

كَمَا عَرَفَ السَّحَرَةُ -لِعِلْمِهِمْ بِفُنُونِ السِّحْرِ- أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى عليه السلام لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُؤَيَّدٍ مُسَدَّدٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ لِبَشَرٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ عِيسَى عليه السلام بُعِثَ فِي زَمَانِ عُلَمَاءِ الطِّبِّ وَمُعَالَجَةِ الْمَرْضَى فَكَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ فِيهِ فَعَرَفَ مَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.

وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا». انتهى

﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)﴾

{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي كذبوا بما في القرآن من آيات فيها ذكر النار وعذابِهم على كفرهم، كذبوا بها.

قال علماءُ التفسير: فيه قولان:

أحدهما: أن المعنى: بما لم يحيطوا بعلم ما فيه من ذِكْر الجنة والنار، والبعث والجزاء.

والثاني: بما لم يحيطوا بعلم التكذيب به؛ لأنهم شاكّون فيه.

{وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي ولم يأتهم العذاب الذي توعدهم الله به في القرآن بعدُ، وسيأتيهم يوم القيامة، قال الشنقيطي: "التحقيق أن تأويله هنا هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر يوم القيامة". {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِالْقُرْآنِ؛ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الماضية {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} كان آخِرُ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ الهلاك والعذاب.

فعاقبة هؤلاء الذين يكذبونك يا رسول الله وآخرُ أمرهم؛ كعاقبة المكذبين من الأمم الماضية إذا لم يؤمنوا ويتوبوا إلى الله من كفرهم.

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)﴾

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أَيْ: مِنْ قَوْمِكَ يا محمد مَنْ سوف يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ {وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} أبداً {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، فسيجازيهم بأشد العذاب.

﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)﴾

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يَا مُحَمَّدُ {فَقُلْ لِي عَمَلِي} وجزاؤه {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} وَجَزَاؤُهُ، كلٌّ يحاسب على عمله لا على عمل غيره {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، و{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢)}

{وَمِنْهُمْ} أي من المشركين {مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} عند قراءتك للقرآن ويستمعون إلى ما تدعو إليه من الحق، ولكنهم لا ينتفعون به {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} الطُّرْش، الذين في سمعهم عيب، فلا يسمعون أصلاً؟ فأنت غير قادر على إسماع الصم، ولو جهرت بالقول {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} خصوصاً إذا كان عقلهم معدوماً.

فكما أنك غير قادر على إسماع الأصم الذي لا يعقل الكلام؛ كذلك لا تقدر على إسماع هؤلاء المكذبين؛ إسماعاً ينتفعون به، وإلا فهم سمعوا منك وقامت عليهم الحجة، ولكن السماع المنفي هو سماع الانتفاع.

فالسماع الذي يدركون به الأصوات حاصل منهم، وبه تقوم الحجة عليهم، وهذا يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بُعث.

وأما سماع الانتفاع فهو المنفي، والذي لا يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو بيد الله وحده، وهو هداية التوفيق.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣)}

‌‌ {وَمِنْهُمْ} ومن المشركين {مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} بأبصارهم الظاهرة، أي ينظر إليك بعينه، ويرى حقيقةَ ما جئت به وأدلتَه، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ، فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تُحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ} أفأنت يا محمد تحدث أبصاراً لهؤلاء يهتدون بها ويبصرون، لو كانوا عُمْيًا ؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ.

قال الطبري: "وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله".

وقال البغوي: "وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، يقول: إنك لا تقدر أن تُسمعَ مَن سلبتُه السمعَ، ولا أن تهديَ مَن سلبتُه البصرَ، ولا أن توفقَ للإيمان مَن حكمتُ عليه ألا يؤمنَ".

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)}

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} ولو قليلاً؛ لكمال عدله تبارك وتعالى {وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية.

فمن يضله الله يضله بعدله، لا ظلماً له.

قال الطبري رحمه الله: "وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه لم يَسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون؛ الإيمانَ ابتداءً منه بغير جُرم سلف منهم، وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه، لذنوبٍ اكتسبوها، فحق عليهم قولُ ربهم {وطُبع على قلوبِهم}.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)}

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يوم القيامة {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنَ النَّهار} كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار {يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يَعرف بعضُهم بعضاً لمّا يُبعثون من القبور كمعرفتهم في الدنيا {قَدْ خَسِرَ} الكفار {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} والمراد من الخسران: خسران النفس، ولا شيء أعظم منه.

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦)}

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يا محمد {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} في حياتك من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم {فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ} في الآخرة {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا؛ فيجزيهم به يوم الحساب جزاءهم الذي يستحقونه.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ 47}

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم الماضية {رَسُولٌ} يُبعثُ إليهم ويبلغهم رسالة الله تبارك وتعالى {فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ} وكذبوه {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالحق، أي عُذِّبوا في الدنيا وأهلكوا بالعذاب.

يعني قبل مجيء الرسول، لا ثواب ولا عقاب.

{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة، ولا يُنقص من حسناتهم، ولا يُزاد على سيئاتهم.

هذا قول، والقول الثاني:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} مضت قبلكم أيها الناس {رَسُولٌ} أرسله الله إليهم بلغهم رسالةَ الله {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {قُضِيَ} حكم الله تبارك وتعالى {بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} من جزاء أعمالهم شيئاً، وكل يجازى على حسب عمله.

قال ابن كثير: "كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ (6) وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزُّمَرِ: 69]، فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ رَسُولِهَا، وكتابُ أَعْمَالِهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ موضوعٌ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ، وَحَفَظَتُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ شهودٌ أَيْضًا أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ..." إلخ. انتهى

وفي قوله تبارك وتعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} قولان: أحدهما: بين الأمَّة، فأثيب المحسن وعوقب المسيء. والثاني: بينهم وبين نبيّهم.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨)}

{وَيَقُولُونَ} أي: المشركون {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الذي تعدنا به يا محمد من العذاب {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنت يا محمد وأتباعك، فيما تعدنا به.

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)}

{قُلْ} يا محمد للمشركين {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} لا أقدر لها على شيء {ضَرًّا} أدفعه عن نفسي {وَلَا نَفْعًا} أجلبه وأحصل عليه، أي لا أقدر على دفع ضر عن نفسي، ولا جلْبِ نفعٍ لها {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن أملكه وأقدر عليه {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} لكل جماعة من الناس مدةٌ زمنية مضروبة لبقائهم في الدنيا {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} وقت فناء أعمارهم {فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ} فلا يتأخرون عنه {سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون} ولا يتقدمون عنه ساعة، بل يفنون في وقتهم الذي أجله ربنا تبارك وتعالى لهم.

فعذابكم أو قيامة الساعة بيد الله متى شاء أتى به، وليس هذا بيدي.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)}

{قُلْ} لهم يا محمد {أَرَأَيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} أي عذاب الله {بَيَاتًا} ليلاً {أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} قال السعدي: أي: أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟

وقال البغوي: أي: ماذا يستعجل من الله المشركون؟ وقيل: ماذا يستعجل من العذاب المجرمون، وقد وقعوا فيه؟

والمعنى: أنهم كانوا يستعجلون العذاب فيقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: ٣٢]

فيقول الله تعالى: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ} يعني: ليس يعلم المجرمون ماذا يستعجلون ويطلبون؛ كالرجل يقول لغيره -وقد فَعلَ قبيحاً-: ماذا جنيت على نفسك؟

وقال القرطبي: "وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ:" مَتى هذَا الْوَعْدُ" وَتَسْفِيهٌ لِآرَائِهِمْ فِي اسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ، أَيْ إِنْ أَتَاكُمُ الْعَذَابُ فَمَا نَفْعُكُمْ فِيهِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ.

{مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ، أَيْ مَا أَعْظَمَ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَطْلُبُ أَمْرًا يُسْتَوْخَمُ عَاقِبَتُهُ: مَاذَا تَجْنِي عَلَى نَفْسِكَ! وَالضَّمِيرُ فِي" مِنْهُ" قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْعَذَابِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى". انتهى

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‌‌(٥١)}

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} معناه أهنالك {إِذَا مَا وَقَعَ} نزل بكم العذاب {آمَنْتُمْ بِهِ} أي بالله في وقت اليأس، وقيل: آمنتم به أي صدقتم بالعذاب وقت نزوله {آلْآنَ} فيه إضمار، أي: يقال لكم: آلآن تؤمنون حين وقع العذاب؟ {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} كنتم قبل نزوله، تطلبون نزوله بكم ووقوعه عليكم، تكذيباً واستهزاء.

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)}

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أي العذاب الذي تخلدون فيه فلا تخرجون منه أبداً {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا.

أي ما تعذبون إلا بما كنتم تفعلونه في الدنيا من كفر ومخالفة لأمر الله تبارك وتعالى.