تفسير سورة يونس 53-61

تفسير سورة يونس 53-61

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)}

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يستخبرونك يا محمد، أي يطلبون منك معرفة الخبر، يسألك المكذبون على وجه التعنت والعناد {أَحَقٌّ هُوَ} أي ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة {قُلْ إِي وَرَبِّي} أي: نعم وربي {إِنَّهُ لَحَقٌّ} لا شك فيه {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين من العذاب؛ لأن من عَجَز عن شيء فقد فاته.

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‌‌(٥٤)}

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي: كفرت {مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ} يوم القيامة، أي لقدمته مقابل أن تنجو من العذاب {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} قال أبو عبيدة: معناه أظهروا الندامة؛ لأنه ليس ذلك اليوم -يعني يوم القيامة- يومَ تصبر وتصنع، وقيل: معناه أخفوا، أي: أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء خوفاً من مَلامَتِهم وتعييرهم {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين الخلق {بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} شيئاً.

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥)}

{أَلَا إنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَلَا إنَّ ‌وَعْد ‌اللَّه} بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاء {‌حَقّ} ثَابِت لا شك فيه {وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ} أَيْ النَّاس {لَا يعلمون} ذلك.

{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)}

{هو يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‌‌(٥٧)}

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} تذكرة {مِنْ رَبِّكُمْ} كِتَاب فِيهِ مَا لَكُمْ وَمَا عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْقُرْآن {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور} أي: دواء لما في الصدور من داء الجهل والشك والعقائد الفاسدة {وَهُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} بالله ورسوله.

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)}

{قُلْ} يا محمد {بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فضله الإسلام، ورحمته القرآن.

كذا فسره جماعة من السلف، وقال بعضهم: فضلُه القرآنُ، ورحمتُه الإسلامُ

{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: ليفرح المؤمنون أن جعلهم الله من أهله {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي مما يجمعه الكفار من الأموال ومتاع الدنيا.

هذا قول، وقال آخرون: كلاهما خبر عن الكفار، أي فليفرح الكفار بفضل الله ورحمته، فهو خير مما يجمعون من متاع الدنيا، وقيل: خبر عن المؤمنين، أي فليفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته، فهو خير لهم مما يجمعون من متاع الدنيا وزينتها.

قال الطبري رحمه الله: يقولُ تعالى ذكره لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمدُ لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أُنزِلَ إليك من عندِ ربِّك: {بِفَضْلِ اللَّهِ} أَيُّها الناسُ، الذى تَفَضَّلَ به عليكم، وهو الإسلامُ، فبَيَّنَه لكم، ودَعاكم إليه، {وَبِرَحمتِهِ} التي رَحِمكم بها، فأنزَلَها إليكم، فعَلَّمَكم ما لم تكونوا تَعْلَمون من كتابِه، وبَصَّرَكم بها معالم دينِكم، وذلك القرآنُ، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. يقولُ: فإن الإسلام الذي دَعاهم إليه، والقرآنَ الذي أنزله عليهم، خيرٌ مما يَجْمَعون مِن حُطام الدنيا وأموالِها وكنُوزِها". انتهى

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}

يقول تعالى منكرًا على المشركين، الذين حرموا ما أحل الله من الحيوانات وأحلوا ما حرم: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {أَرَأَيْتُمْ} أخبروني عن {مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} من لحوم وغيرها {‌فَجَعَلْتُمْ ‌مِنْهُ ‌حَرَامًا وَحَلَالاً} فحرمتم بعض الرزق الذي رزقكم الله، وحللتم بعضه بأهوائكم، من عندكم {قُلْ} لهم يا محمد {آللَّهُ} هل الله {أَذِنَ لَكُمْ} بتحليل ما أحللتم، وتحريم ما حرمتم {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} تكذبون بنسبة ذلك إليه، ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعُلم أنهم مفترون.

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)}

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي ما الذي يظنه الذين يختلقون الكذب على الله أن يفعل بهم يوم القيامة، أيظنون أنه يتجاوز عنهم، ولا يعاقبهم؟ لا.

{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} ذو إحسان وإفضال ومنة على الناس بإمهالهم والإنعام عليهم بأنواع النعم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} الله على إنعامه وإحسانه وتفضله عليهم، فلا يطيعونه فيما أمرهم به، بل يعصونه.

قال ابن كثير: "بَلْ يُحَرِّمُونَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِه عَلَيْهِمْ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَجْعَلُونَ بَعْضًا حَلَالًا وَبَعْضًا حَرَامًا.

وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا شَرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِهِمْ". انتهى

قال السعدي: "ويُستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة الحِل، إلا ما ورد الشرع بتحريمه؛ لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده".

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}

قال السعدي: "يخبر تعالى عن عموم مشاهدته، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا؛ الدعوة لمراقبته على الدوام" فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا تَكُونُ} يا محمد {فِي شَأْنٍ} يعني: في عملٍ مِن الأعمالِ {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أي: وما تقرأ من القرآن الذي أوحاه الله إليك.

{وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} ولا تعمَلون أيُّها الناسُ من خيرٍ أو شرٍّ {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} نراكم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: في وقت شروعكم في العمل، واستمراركم عليه.

قال السعدي: "فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم".

{وَمَا يَعْزُبُ} وما يغيب {عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ} وزن {ذَرَّةٍ} نملة صغيرة {فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} من وزن ذرة {وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.

قال السعدي: وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر، كثيرًا ما يقرن الله بينهما، وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابتُه المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. انتهى