تفسير سورة يونس 71-92

تفسير سورة يونس 71-92
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)}

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: {وَاتْلُ} واقرأ يا محمد {عَلَيْهِمْ} أي: على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك، وأخبرهم {‌نَبَأَ} خبر {‌نُوحٍ} نبيِّ اللهِ عليه السلام مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم اللهُ ودَمّرهم بالغرق جميعاً، أخبرهم بذلك ليحذر أهل مكة الذين يكذبونك أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك {إِذْ قَالَ} نوح {لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أي: عَظُم عليكم {‌مَقَامِي} أي طول بقائي ومكثي فيكم {وَتَذْكِيرِي} ووعظي إياكم {بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: بحججه وبراهينه {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي: فإني لا أبالي ولا أكف عنكم، سواء عظم عليكم أو لا {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أي: فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله، من صَنَم ووثن {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي: ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} أي: ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي: مهما قدرتم فافعلوا، فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم، لأنكم لستم على شيء.
قال البغوي: "وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْجِيزِ، أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ ‌نُوحٍ أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ كَيْدِ قَوْمِهِ، عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُمْ وَآلِهَتَهُمْ لَيْسَ إِلَيْهِمْ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ".

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: أَعْرَضْتُمْ عَنْ قَوْلِي وَقَبُولِ نُصْحِي، وكذبتم وأدبرتم عن الطاعة {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي: فلم أطلب منكم على نصحي إياكم وتبليغكم رسالة ربي شيئًا من الأجر {إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} ما أجري وثوابي إلا على الله، لا عليكم ولا على غيركم من الخلق.

فإعراضكم عن الحق وعدم قبولكم نصحي لم يكن بسببي فلم أطلب منكم أجراً، بل كان بسبب تفريطكم في واجبكم {وَأُمِرْتُ} وأمرني ربي تبارك وتعالى {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} من المستسلمين المنقادين لله بالطاعة، أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، مِن أجلِ ذلك أَدعُوكم إليه، وبأمرِه آمُرُكم بتركِ عبادةِ الأوثانِ.

والإسلام بالمعنى العام هو دين جميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهجهم.

وأما الإسلام بالمعنى الخاص فهو دين محمد صلى الله عليه وسلم.

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}

{فَكَذَّبُوهُ} أي قوم نوح كذبوا نوحاً {فَنَجَّيْنَاهُ} فنجى الله تبارك وتعالى نوحاً {وَمَنْ مَعَهُ} من المؤمنين {فِي الْفُلْكِ} وهي: السفينة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} وجَعَلنا الذين نَجَّيناهم مع نوحٍ في السفينة خلائفَ في الأرضِ، أي يكونون في الأرض من بعد قومهم الذين أغرقهم الله تبارك وتعالى، يخلفونهم في سكنى الأرض {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ} يا محمد وتأمل {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} كيف كان آخِرُ أَمْرِ الَّذِين بلَّغهم الرسل رسالة الله وخوَّفوهم عقابه؛ فَلَمْ يُؤْمِنُوا.

كانت نهاية أمرهم الهلاك.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}

{ثُمَّ بَعَثْنَا} أرسل الله تبارك وتعالى {مِنْ بَعْدِهِ} من بعد نوح {رُسُلًا} إلى أقوامهم؛ كَهُودٍ وصالحٍ وإبراهيمَ ولوطٍ وشعيبٍ وغيرِهم {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالحجج والأدلة الواضحة على صدق ما جاءوهم به {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي: فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلُهم، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]

{كَذَلِكَ نَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} والقلب إذا ختم الله عليه لا يدخله الإيمان أبدا فيموت صاحبه كافراً.

أي: كما عاقب الله تبارك وتعالى هؤلاء فطبع على قلوبهم فلم يؤمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم، كذلك يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

قال ابن كثير: "وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟". انتهى

﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)﴾

يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا} أرسلنا {مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلهم الله من بعد نوح إلى قومهم {‌مُوسَى} بن عمران، كليم الله، أحد أولي العزم من الرسل {وَ} أخاه {هَارُونَ} بنَ عمران {إِلَى فِرْعَوْنَ} ملك مصر {وَمَلَئِهِ} أي: كبارِ دولته ورؤسائِهم، والعامةُ تبعٌ للرؤساء.

{بِآيَاتِنَا} أرسلناهما بأدلَّتِنا، آياتنا الدالة على صدق ما دعوهم إليه من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى، والإقرارِ لهما بالرسالةِ {فَاسْتَكْبَرُوا} فتكبروا عن الإقرارِ بما دَعاهم إليه موسى وهارونُ ظلمًا وعلوًا.

{وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} يعني: آثمين؛ بكفرِهم باللهِ تعالى، وتكذيبِهم لرسله.

﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)﴾

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ} فرعونَ وكبراءَ دولته {الْحَقُّ} أي فلما جاءتهم الحجج والبينات التي تدل على صدق ما جاءهم به موسى {مِنْ عِنْدِنَا} من عند الله؛ ردوا هذه الأدلة وكذبوا بها، و {قَالُوا} بعد أن تبين لهم أنه الحق واستيقنوه وكذبوا به، قالوا -وهم يعلمون أنهم كذبة في قولهم-: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} بين واضح لا خفاء فيه، يتضح لَمَن رَاه وعاينَه أنه سحرٌ لا حقيقةَ له.

﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)﴾

{قَالَ} لهم {مُوسَى} موبخاً لهم {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} من عند الله: إنه سحر مبين.

{أَسِحْرٌ هَذَا} الحقُّ الذي تَرَونه؟! {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} وإني لأعلم أنه لا يَنجحُ الساحرون ولا يَبقَوْن فكيف أفعله؟!

﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)﴾

‌‌{قَالُوا} قال فرعونُ وكبارُ دولته لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا وتلوينا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا، وهو الشرك وعبادة غير الله، فجعلوا دين آبائهم الضالين حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام.

وهذه حجة المفلس إلى يومنا هذا، من يتبين له الحق ولا يريد قبوله يحتج بأن ما وجد عليه آباءه خلافُه، فيردُّ الأدلة البينة الواضحة التي تدل على الحق، بحجة أنهم وجدوا آباءهم على خلافها.

ولا تغني عنهم عند الله شيئا.

وقالوا: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ} يعني وجئتمونا لتكون العظمة والرياسة في الأرض لكما.

يعني تريدان الرياسة.

قال السعدي: "أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساءُ، ولِتُخرِجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جُهالهم، وتهييجٌ لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به.

وهذا لا يَحتجُّ به مَن عرف الحقائقَ، وميز بين الأمور، فإن الحججَ لا تُدفع إلا بالحجج والبراهين.

وأما من جاء بالحق، فرُدّ قولُه بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز مُورِدِها عن الإتيان بما يَردُّ القولَ الذي جاء خصمُه، لأنه لو كان له حجةٌ لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله: قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كلُّ من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصدٌ في العلو في الأرض، وإنما قصده كقصدِ إخوانِه المرسلين، هدايةُ الخلق، وإرشادُهم لما فيه نفعهم، ولكنْ حقيقةُ الأمر، كما نطقوا به بقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي: تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رَمَوا به موسى وهارون". انتهى

{وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩)}

أي قال فرعون لرجاله: أحضروا كلَّ ساحر فائق في علم السحر، ماهر به متقٍ له.

وهذا بعد أن أُرسل موسى لفرعون ودعاه إلى الله، وبين له أدلة رسالته، فاتهموه أنه ساحر، والسحر كان في زمنهم ظاهرا غالبا كثيرا.

فأراد فرعون أن يتحدى موسى ويبطل أدلة رسالته بسحر السحرة، فأمر جنده أن يُحضِروا له كل ساحر متمكن في سحره متقن له.

{فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)}

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة} إلى فرعون وموسى {قَالَ لَهُمْ مُوسَى} بَعْدمَا قَالُوا لَهُ {إمَّا أَنْ تُلْقِي} أنت عصاك أولاً {وَإِمَّا أَنْ نَكُون نَحْنُ الْمُلْقِينَ} لعِصِيّنا وحبالنا أولاً، قال لهم موسى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} ابدؤوا أنتم وألْقُوا ما تريدون إلقاءه.

{فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)}

{فَلَمَّا أَلْقَوْا} حِبَالهمْ وَعِصِيَّهمْ إذا هي كأنها حيات تسعى {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي الذي جئتم به سحر {إنَّ اللَّه سَيُبْطِلُهُ} سيذهبه ويمحقه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} كل المعاصي فساد، ومنها السحر.

ومعنى "لا يُصلحُ"، قال أهل العلم: يَحتَمِل أن يُراد أنه تعالى يتركهم وإفسادَهم، وما لم يصلحه الله لا يدوم ولا يثبت، فيصير باطلاً زائلاً.

ويَحتمِل أنه يُفسدُ إفسادَهم بأن يُسلّطَ عليه الدمارَ فيبطله.
قال السعدي: "وهكذا كلُّ مفسدٍ عَمِل عملاً واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.

وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم".

{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)}

{وَيُحِقّ} يُثْبِت ويبين ويوضح {اللَّه الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ} بأمره {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} العصاة لأمر الله.

فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق. فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم.

وأما فرعون وملؤه، وأتباعهم:

{فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)}

{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} إلا بعضُ أولاد قوم فرعون {عَلَى خَوْفٍ} أي آمنوا وهم خائفون {مِنْ فرعونَ وَ} خائفون مِن {مَلائِهِمْ} أشرافِهِم وكبارِهم {أَنْ يَفْتِنهُمْ} يَصْرِفهُمْ عَنْ دِينهم بِتَعْذِيبِهِم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ} مُتَكَبِّر وطاغ {فِي الْأَرْضِ} أَرْض مِصْر، وقال السعدي: "أي: له القهر والغلبة فيها، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته".

{وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ} وإن فرعون لمن الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدّ في البغي والعدوان.

قال الطبري: "يقولُ فإنه لمن المُتَجاوِزِين الحقِّ إلى الباطلِ، وذلك كفرُه باللهِ، وتركُه الإيمانَ به، وجُحودُه وحدانيةَ اللهِ، وادعاؤُه لنفسِه الألوهةَ، وسفكُه الدماءَ بغيرِ حِلِّها". انتهى

وقال السعدي: "والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم". انتهى

{وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)}

{وَقَالَ مُوسَى} موصيًا لمؤمني قومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} فقوموا بوظيفة الإيمان

{فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} أي: اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه، واطلبوا النصر منه بالدعاء. {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} إن كنتم منقادين مستسلمين للهِ بالطاعةِ، فعليه توكّلوا.

قال السمعاني: "التَّوَكُّل: هُوَ الثِّقَة بِاللَّه والاعتماد عَلَيْهِ فِي الْأُمُور".

{فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)}

{فَقَالُوا} ممتثلين لذلك {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي عليه اعتمدنا، وبه وَثِقنا، وإليه فوَّضنا أمرَنا. ثم دعَوا الله فقالوا: يا {رَبَّنَا لَا تَجْعَلنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال مجاهد: لا تُعذِّبْنا بأيدي قومِ فرعونَ، ولا بعذابٍ مِن عندِك، فيقولَ قومُ فرعونَ: لو كانوا على حقٍّ ما عُذِّبوا ولا سُلِّطْنا عليهم. فيُفتنوا بنا". انتهى

{وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)}

ونَجِّنا يا ربَّنا برحمتِك، فخَلَّصْنَا مِن أَيْدى القومِ الكافرين، فرعونَ ومَن معه.


﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)﴾
يذكر الله تبارك تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل مِن فرعون وقومِه، وكيف خلصهم منه.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} أمر الله تبارك وتعالى نبيه موسى عليه السلام {وَأَخِيهِ} هارون عليه السلام {أَنْ تَبَوَّآ} اتَّخِذَا {‌لِقَوْمِكُمَا} لبني إسرائيل ‌{بِمِصْرَ} هو البلد المعروف اليوم بهذا الاسم، بلد النيل، قال مجاهد: مصر الإسكندرية {بُيُوتًا} لتسكنوها وتعبدوا الله فيها {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة} مُصَلًّى تُصَلُّونَ فِيهِ؛ لِتَأْمَنُوا مِنْ الْخَوْف، كانوا خائفين من فرعون وقومه، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم {وَأَقِيمُوا الصَّلَاة} أدوها وأَتِمُّوهَا {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} بالأجر والنصر.

قال ابن كثير: "وكأن هذا -والله أعلم -لمّا اشتد بهم البلاءُ مِن قبَل فرعونَ وقومِه، وضيقوا عليهم، أُمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153]. وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمرٌ صلى. أخرجه أبو داود.

ولهذا قال تعالى في هذه الآية: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: بالثواب والنصر القريب". انتهى

معنى "إذا حَزَبه أمرٌ" أي إذا أصابه أمر شديد ومهم وشغله.

﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)﴾


هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام، على فرعون وَمَلَئه، لما أبَوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ} أعطيت {فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ} كبراءَ قومِه وأشرافَهم {زِينَةً} أي: من أثاث الدنيا ومتاعها {وَأَمْوَالًا} كثيرة من الذهب والفضة {فِي} هذه {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا} آتَيْتهمْ ذَلِكَ {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وفي قراءة "لِيَضِلُّوا".

قال الطبري: " أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال؛ لتفتنهم فيه، ويُضِلُّوا عن سبيلك عبادَك؛ عقوبةً منك، وهذا كما قال جل ثناؤه: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.

وقال ابن كثير: -بفتح الياء -أي: أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم؛ استدراجاً منك لهم، كما قال تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.

وقرأ آخرون: (لِيُضِلُّوا) بضم الياء، أي: ليفتتن بما أعطيتهم مَن شئت من خلقك، ليظنَّ من أغويتَه أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم.

وقال البغوي: "اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ "اللَّامِ"، قِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، مَعْنَاهُ: آتَيْتُهُمْ كَيْ تَفْتِنَهُمْ فَيَضِلُّوا وَيُضِلُّوا؛ كَقَوْلِهِ: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}

وَقِيلَ: هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ يَعْنِي: فَيَضِلُّوا وَتَكُونُ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الضَّلَالَ، كَقَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}

{رَبّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالهمْ} أهلكها، وأصل الطمس: محوُ الشيء ومسحُه {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهمْ} اطْبَعْ عَلَيْهَا، قال البغوي: " أَيْ: أَقْسِهَا -أي اجعلها قاسية- وَاطْبَعْ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَلِينَ وَلَا تَنْشَرِحَ لِلْإِيمَانِ {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا العذاب الأليم} المؤلم الموجع، وعندها لا ينفع الإيمان.

قَالَ السُّدِّيُّ: "مَعْنَاهُ أَمِتْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ". انتهى

دعا موسى، وأمن هارون على دعائه.

قال ابن كثير: "وهذه الدعوة كانت من موسى، عليه السلام، غضبًا لله ولدينه على فرعون ومَلَئِه، الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيءُ منهم شيءٌ كما دعا نوح، عليه السلام، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى، عليه السلام، فيهم هذه الدعوة، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون". انتهى

﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)﴾

{قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتكُمَا} قد استجاب الله لكما، فأهلَك أموالهم، وَلَمْ يُؤْمِن فِرْعَوْن حَتَّى أَدْرَكَهُ الْغَرَق {فَاسْتَقِيمَا} عَلَى الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَةِ، وَامْضِيَا لِأَمْرِي إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيل الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} يَعْنِي: وَلَا تَسْلُكَا طَرِيقَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ وَعْدِي، فَإِنَّ وَعْدِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَوَعِيدِي نَازِلٌ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. قاله البغوي.

﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} وقطَعنا ببنى إسرائيلَ ‌البحرَ حتى جاوَزوه {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} أي لَحِقَهم فرعونُ، تبعهم هو {وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} ظلماً واعتداء على موسى وهارونَ ومَن معهما مِن قومِهما مِن بني إسرائيلَ.

لما خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر لحقهم فرعون وجنوده حتى كادوا يصلون إليهم، فلما وصل موسى ومن معه إلى البحر أوحى الله إلى موسى، أن يضربه بعصاه، فضربه، فانفلق البحر وسلكه بنو إسرائيل، فدخل فرعون وجنوده خلفهم.

فلما استكمل موسى وقومه خارجين من ‌البحر، وفرعون وجنوده داخلين فيه، أمر الله ‌البحر فالتطم على فرعون وجنوده، فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون.

{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} يقولُ: حتى إذا أحاطَ الغرقُ بفرعون، وكاد يموت غرقاً وأيقن بالهلاك {قَالَ} فرعون {آمَنْتُ} أقررت {أَنَّهُ لَا إِلَهَ} لا رب ومعبود بحق {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} موسى وهارون ومن معهما {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} المستسلمين لأمر الله المنقادين لطاعته وطاعة رسوله موسى.

ولكنه آمن في الوقت الذي لا ينفعه فيه إيمانه.

﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾

أي: أهذا الوقت تؤمن، وقد عصيت الله قبل هذا في الوقت الذي ينفعك فيه الإيمان لو آمنت؟

قال السعدي: قال الله تعالى - مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له-: {آلآنَ} تؤمن، وتقر برسول الله {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} أي: بارزت بالمعاصي، والكفر والتكذيب {وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم، صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع، إنما هو الإيمان بالغيب.

﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)﴾

قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم، من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشَكُّوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نَجوَة -وهي المرتفع من الأرض- مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية.

{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها.

وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل". انتهى