الدرس الخامس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ،،
فهذا المجلس الخامس من مجالس شرح الورقات في أصول الفقه
قال المؤلف – رحمه الله - : " وأبواب أصول الفقه : أقسام الكلام ، والأمر والنهي ، والعام ، والخاص ، والمجمل ، والمبيَّن ، والنص ، والظاهر ، والأفعال ، والناسخ والمنسوخ ، والإجماع ، والأخبار ، والقياس ، والحظْر والإباحة ، وترتيب الأدلة وصفة المفتي والمستفتي ، وأحكام المجتهدين"
سرد المؤلف ها هنا أبواب أصول الفقه وبعد سردها ؛ بدأ بتفصيلها ؛ فقال رحمه الله :" فأما أقسام الكلام : فأقل ما يتركب منه الكلام اسمانِ ، أو اسم وفعل ، أو فعل وحرف ، أو اسم وحرف " .
الكلام من مباحث اللغة ، وعلماء الأصول أو كثير منهم يذكرون في كتبهم المؤلفة في هذا الفن مقدمة في المنطق مما له تعلق بعلم الأصول ، ومقدمة في اللغة ؛ وذلك لأن المادة التي تَكوَّن منها علم الأصول ؛ منها اللغة العربية فكثير من القواعد الأصولية أصلها مأخوذ من اللغة العربية . وكذلك فَهْم أدلة الكتاب والسنة واستنباط الأحكام الشرعية لا يتم لطالب العلم ولا يتمكن منه إلا بمعرفة اللغة العربية ؛ لأن القرآن نزل باللغة العربية ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عربياً وكان يتكلم بالعربية ؛ فالوحيان الكتاب والسنة باللغة العربية ولنتمكن من فهم الكتاب والسنة لا بد أن يكون عندنا شيء من اللغة لنتقن استنباط الأحكام ونفهم المراد منهما ، فَمِن المباحث اللغوية التي يتكلمون عنها في علم الأصول : الكلام .
الكلام لغة : هو اللفظ الموضوع لمعنى ، فكل لفظٍ وُضِع لمعنى يسمى عند العرب كلاما سواء كان حرفاً أو اسماً أو فعلاً أو جملة مفيدة أو جملة غير مفيدة . فبقوله : "اللفظ " أخرج ما ليس لفظاً ؛ واللفظ : هو الصوت المشتمل على بعض الحروف ، فقولك : (زيد) هذا صوتٌ خرج منك مشتمل على بعض الحروف وهي الزاي والياء والدال ، هذا يسمى في لغة العرب : لفظ ، فهذا اللفظ إذا وُضع لمعنى عند العرب يسمى كلاماً ، اللفظ الموضوع لمعنى ، فــ " زيد " هذا لفظ موضوع لمعنى فهو كلام ، "إلى " لفظ موضوع لمعنى فهي كلام ، " ذهب " لفظ موضوع لمعنى فهو كلام ، " إن جاء " كذلك ، هذا من ناحية اللغة .
أما الكلام اصطلاحاً : فهو اللفظ المفيد فائدة يَحْسن السكوت عليها ويعنون بـ " اللفظ " : الصوت المشتمل على بعض الحروف ، ويعنون بـ " المفيد فائدة يحسن السكوت عليها " : ما يصح الاكتفاء به في الكلام نحو "قام زيدٌ " هذا كلام لأنه لفظ يصح الاكتفاء به والسكوت عليه ويعطي معناً مفهوماً ، فإذا قلتَ : " إنْ قام زيدٌ " فهذا في الاصطلاح ليس كلاماً لأنه لا يصح الاكتفاء به يبقى السامع منتظراً تتمَّته ، فهذا ليس بكلام عند أهل الاصطلاح .
وخرج بقولنا : " اللفظ " الإشارة فهي ليست لفظاً وكذلك الكتابة ، وخرج بقولنا : " المفيد فائدة يحسن السكوت عليها " ما لم يُفد كقولك : " زيد " و " بكر " و " أكل " و "شرب " و " في " و " إلى" ، كل هذا لا يفيد في الاصطلاح يريدون بالإفادة أن يكون كلاماً مركَّباً يحسن السكوت عليه ، هذا معنى الإفادة عندهم . وكذلك قولك : " إن قام زيدٌ " هذا ليس بكلام لأنه ليس مفيداً فائدة يحسن السكوت عليها و " إذا أتى عمرو " كذلك ليس بكلام وهكذا ، فالكلام عندهم هو اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها أو كما عرَّفه البعض تعريفاً آخر ؛ فقال : " هو اللفظ المركب المفيد بالوضع " فقولهم : " اللفظ " ؛ خرج به الإشارة والكتابة ، وقولهم : "المركب " يريدون به أن يكون مركباً من كلمتين فأكثر فخرج به ما لم يكن مركباً ، ما كان من كلمة واحدة . وقولهم " المفيد " : خرج به ما لم يُفِد كقولك : " إن قام زيد " فإنه ليس مفيداً و لا يحسن السكوت عليه وإن كان لفظاً وإن كان مركباً لكنه لا يحسن السكوت عليه ، وبقولهم : " بالوضع " أي موضوع بالوضع العربي أي يكون باللغة العربية ؛ ففي الاصطلاح إذا كان الكلام عربياً فهو كلام ، فإن لم يكن عربياً فليس بكلام على خلاف الوضع في اللغة ، فهذا تعريف الكلام لغة واصطلاحاً ، ونحن نتدرج هنا لنصل إلى ما يريده المؤلف - رحمه الله - ؛ فكل هذا التوسع ليس من مباحث أصول الفقه ، بل هو من عمل أهل اللغة ويدرس في علم النحو .
والكلام عند المؤلف في الاصطلاح ينقسم إلى ثلاثة أقسام : اسم وفعل وحرف . فالاسم في اللغة ما دلَّ على مسمّى ، تقول : (زيد) هذا اسم لأنه يدل على شخص يسمّى بهذا الاسم أما في الاصطلاح ؛ فالاسم : كلمة دلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمان ، هذه الكلمة ؛ " زيد " تدل على معنىً بنفسها وهو أن هناك شخص ما يسمى " زيد " ، ولكن لا علاقة لها بالوقت ، فإنها لا تفيدك شيئاً بالنسبة للوقت .
أما الفعل فهو في اللغة الحدث ، واصطلاحا ، الفعل : كلمة دلت على معنى في نفسها واقترنت بأحد الأزمنة الثلاث التي هي الماضي والحاضر والمستقبل ، إذاً الفرق بين الاسم والفعل اصطلاحا : أن الفعل حدث مقرون بزمن ، أما الاسم فليسا حدثا ولا يقترن بزمن ؟
وأما الحرف فكلمة دلَّت على معنى في غيرها ، وإن كانت مثلاً كلمة " مِنْ " تدل على الابتداء لكن لا تعطينا معنىً إلا إذا اقترنت بغيرها كقولك : " خرجتُ من البيت إلى المسجد " ، فهنا أصبح لها معنىً مفيداً مع تركيبتها مع غيرها . وهذا كله للفائدة لنفهم أشياء سيذكرها لنا المؤلف الآن وفيما سيأتي .
ثم قال المؤلف : " فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان ، واسم وفعل ، وفعل وحرف ، واسم وحرف " ذكرنا فيما تقدم أن الكلام في التعريف الثاني في الاصطلاح هو اللفظ المركب ، إذاً يجب أن يكون مركبا ، أي يتألف من كلمتين فأكثر ، إذاً أقل ما يتألف منه كلمتان ، ما نوع هاتين الكلمتين ؟
أولا : إما أن تكونا اسمين ، وللاسم علامات ؛ منها دخول الألف واللام عليه مثلاً ، ودخول حرف الجر ..إلخ فــ " زيد " اسم (عمرو) اسم (قائمٌ) اسم . فأقل ما يتألف منه الكلام اسمين مثل : (زيدٌ قائمٌ) كلمتان (زيدٌ) كلمة و(قائم) كلمة.
ثانيا : اسم وفعل مثل (قام زيدٌ) ، قام : فعل ماضي يدل على حدث وهو القيام في الزمن الماضي - دلَّ على حدث واقترن بزمن فهو فعل - ، (زيدٌ) يدل على مسمّى لا علاقة له بالزمن فهو اسمٌ ، (قام زيدٌ) اسم وفعل .
ثالثا : فعل وحرف نحو : ( ما قام ) ، (ما) نافية - حرف –و(قام) فعل . وفي هذا خلاف ؛ هل يتركب الكلام من فعل وحرف أم لا ، فالبعض قال لا ، بل أقل ما يتركب من اسمين أو من فعل واسم ؛ أما حرفٌ وفعل فلا ، قالوا : لأن قوله : قام فيه ضمير أصلاً - قام هو - فمثل هذا لا يمثَّل به ، ليس بصحيح في المثال .
رابعا : اسمٌ وحرف ومثال ذلك (يا زيد) (يا) حرف و (زيد) اسم وهذا أيضاً فيه خلاف .
ثم قال المؤلف - رحمه الله - : " والكلام ينقسم إلى : أمرٍ ، ونهيٍ ، وخبر ، واستخبار ، وتمن ، وعرض ، وقسم " تأليف الكلام الذي تقدم تأليف لفظي ، أما الآن فتقسيم الكلام بالنظر إلى مدلوله .
هذا التقسيم للكلام من جهة كونه خبراً وإنشاءً ، فعلماء اللغة يقسمون الكلام من هذه الناحية إلى خبرٍ وإنشاء ؛ فـ الخبر: " ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته " فأيُّ كلام يمكن أن تصفه بالصدق أو الكذب بغض النظر عن المتكلم بل بالنظر إلى نفس . فإن أمكن أن نصف الكلام بالصدق أو الكذب فهو خبر ، وإن لم يمكن أن نصفه بالصدق أو الكذب فهو إنشاء ، وليس بخبر .
فإذا قيل : (قام زيدٌ) أو (جاء عمرو) فهل يصح أن يقال في هذا الكلام صدق أو كذب ؟ أي أن تقول للمخبر لك : صدقت أو كذبت؟ نعم يصح ، إذاً فهو خبر .
أما إذا قيل هل جاء زيدٌ ؟ فهل يصح أن تقول له صدقت أو كذبت ؟ لا يصح ، فإنه يسأل و لا يخبرك خبراً بل يستفهم فلا يصح أن تقول له صدقت ولا كذبت إذاً هذا إنشاء وليس خبرا .
وقولنا في التعريف " لذاته " ؛ أي باعتبار نفس الكلام لا باعتبار المخبِر به أو المتكلم به ، فكلام الله وكلام رسوله باعتبار المخبر به وهو الله أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يوصف بالكذب ، وكذلك الكلام المستحيل لا يمكن أن يوصف بالصدق كخبر من يدّعي الرسالة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا لا يمكن أن يقال في قوله إنه مرسل من عند الله ؛ هذا صدق ، لا هذا كذب يقيني . فهذا باعتبار المُخبِر ؛ أما نحن ففي حكمنا على الكلام ننظر إلى نفس الكلام فقط لا علاقة لنا بالمخبر لنحكم على الكلام بأنه خبر أو إنشاء ، فهذا الخبر .
أما الإنشاء فما لا يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب ، وهو عكس الخبر ، ومنه - من الإنشاء - الأمر والنهي والتمني والعرض والقَسَمْ التي ذكرها المؤلف - رحمه الله .
" الأمر " نحو : قُمّ ، اذهب ، صلِّ ، اجلس ..إلخ وسيأتي تعريفه إن شاء الله في بحث خاص بعد أن ينتهي من الكلام عن الحقيقة والمَجاز .
و " النهي " نحو : لا تقصد ، لا تكذب ..إلخ وسيأتي أيضاً الكلام فيه في مبحث مستقل بعد الأمر بإذن الله تعالى .
و " الاستخبار " وقد تقدم معنا أن الألف والسين والتاء إذا دخلت على كلام تعني الطلب في الغالب ، فهنا يكون المعنى : طلب الخَبَر ، وهو الاستفهام نفسه ، نحو هل قام زيدٌ ؟ هذا استخبار يعني استفهام ، فيقال فيه نعم أو لا ، لا يقال فيه صدقت ولا كذبت فهذا إنشاء وليس بخبر .
و" التمني" : الرغبة في تحقق أمرٍ محبوب هذا التمني وله أدوات في اللغة يستعملها الشخص كي يعبِّر عن أمانيه وأشهر هذه الأدوات (ليتَ) نحو قول الشاعر :
ألا ليت الشباب يعود يوماً ** فأخبره بما فعل المشيب
فقوله : ليتَ الشباب يعود يوماً ؛كلمة (لَيْتَ) هذه من أدوات التمني فهذا الرجل يتمنى عودة الشباب إليه فهو يرغب في تحقُّقِ أمر محبوب ، هذا هو التمني وهو أيضاً من الإنشاء ، فهذا لا يقال فيه صدقت ولا يقال فيه كذب .
و" العرض " : هو الطلب برفق ولين ،فلو عرضت عليك مثلاً أن تنزل عندي لتناول الطعام ؛ فماذا أقول لك ؟ أقول : ألا تنزل عندنا (ألا) من أدوات العرض ، فـ (ألا تنزل عندنا ) عرض برفق ولين .
و" القَسَم " معروف نحو : والله لأفعلن كذا وهذه كلها من الإنشاء .
إذاً فالكلام ينقسم إلى خبرٍ وإنشاء.
ثم قال المصنف - رحمه الله - : " ومن وجهٍ آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز . فالحقيقة : ما بقي في الاستعمال على موضوعه ، وقيل : ما استُعمِل فيما اصطُلح عليه من المخاطبة . والمجاز : ما تُجوِّز به عن موضوعه " لابد من الانتباه إلى أمر ما وفهمه جيدا وهو أن مسألة الحقيقة والمجاز ؛ أهمية هذا التقسيم ونزاع العلماء فيه إثباتاً ونفياً ؛ تكمن في علاقته بمسألة الأسماء والصفات ، واتخاذ المعطلة له ذريعة لنفي صفات الله تبارك وتعالى ، فنفهم أولاً ما هو الحقيقة والمجاز ثم نَعْرِف كيف استعمل أهل التعطيل هذا التقسيم لتعطيل صفات الله تبارك وتعالى ولتعطيل كثير من أحكامه عن حقيقتها وصرفها عن مراد الله تبارك وتعالى .
الحقيقة لغةً : هي الشيء الثابت المؤكَّد ، قال الله تبارك وتعالى {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي ثبَتَتْ . وأما اصطلاحاً فأشار المؤلف - رحمه الله - إلى خلافٍ في تعريفها حيث ذكر لها تعريفين فقال في الأول : ما بقي في الاستعمال على موضوعه وقال في الثاني : ما استُعمل فيما اصطُلِح عليه من المخاطبة . نقف مع التعريف الأول .
قال : الحقيقة : " ما بقي في الاستعمال على موضوعه " فإذا فهمنا كلمتي " استعمال " و " موضوعه " فهمنا التعريف .
أما كلمة " الموضوع" فيَعنُون به الوضع العربي أي أنهم يعنون بأن العرب قد وضعت كلمات لأشياء معينة ، فلنَقُل إنَّ أهل اللغة وضعوا اسم الأسد على الحيوان المفترس ، هذا الوضع العربي ، فإن جاء شخصٌ واستعمل هذه الكلمة التي هي كلمة (الأسد) في غير ما وضعته العرب له ، فاستعمل هذه الكلمة في الرجل الشجاع مثلاً ؛ فقال : رأيتُ أسداً راكباً على فَرَسٍ أو قال : فلان أسدٌ من أسُود الله ، هذا الشخص أخذ " الأسد " هذه والتي وضعها العرب على الحيوان المفترس فاستعملها في الرجل الشجاع ، هذا الاستعمال يسمى مجازاً ، أما إذا استعمل الكلمة في نفس ما وضعته له العرب يعني استعمل كلمة (أسد) في الحيوان المفترس فقال : رأيت اليوم أسداً في غابة ، فهذا يسمونه حقيقة لأنه استعمل اللفظ فيما وضعته له العرب . إذاً فالحقيقة " ما بقي في الاستعمال على موضوعه " فهذا الرجل لما استعمل كلمة الأسد استعملها فيما وضعته له العرب وهو الحيوان المفترس إذاً فهذا الكلام يكون حقيقة ، أما إذا استعملها في الرجل الشجاع ، فليس هذا ما وضعته له العرب ، فنسميه مَجازا .
المجاز لغة : مكان الجواز يعني مكان العبور ، فأصل الكلمة مشتقة من الجواز من مكانٍ إلى مكان ، فكأن اللفظ الذي له حقيقة ومجاز جازَ - أي تعدى - من الحقيقة إلى المجاز ، هذا أصل الوضع اللغوي .
أما اصطلاحاً فقال المؤلف في تعريف المجاز : " ما تُجُوِّز به عن موضوعه " أي استُعمِل في غير ما وضعته له العرب كما مثَّلنا له ؛ إذا استعمل كلمة الأسد في الرجل الشجاع . هذا بالنسبة للتعريف الأول ، وتعريف الحقيقة والمجاز مرتبطان ببعض فإذا عرَّفت الحقيقة بتعريف ينبغي أن يكون تعريف المجاز متطابقاً مع تعريف الحقيقة .
أما التعريف الثاني
فقال المصنف – رحمه الله - : " ما استُعمل فيما اصطُلح عليه من المخاطبة " أي المخاطبة التي يتخاطبون بها ، فهنا الاعتبار في الحقيقة ليس فقط للوضع اللغوي ، لا ، بل يعتبرون أيضاً أشياء أخرى كالوضع العُرفي والوضع الشرعي ، قال : ما استُعمل فيما اصطُلح عليه من ؛ إما بالشرع أو اصطلاح عرفي ، مثلاً الصلاة شرعاً : هي الأفعال المخصوصة المعروفة التي تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم هكذا وضعها الشارع ، فهذا وضع شرعي ، فإذا كنت تتكلم في مسألة شرعية واستعملتَ اللفظ فيما اصطُلح عليه شرعاً ، فاستعمَلْت كلمة الصلاة بالمعنى الذي ذُكر في الشرع بمعنى الأفعال المخصوصة التي تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم فقد استعملتَ الكلام على حقيقته، إذاً بناءً على هذا التعريف ؛ الحقيقة ليست واحدة ليست فقط لغوية بل يكون عندنا حقيقة لغوية وحقيقة شرعية وحقيقة عرفية ، لأهل اللغة حقيقتهم ولأهل الشرع حقيقتهم ولأهل العرف حقيقتهم ، هذا بناء على التعريف الثاني ، بناءً على التعريف الأول ما عندنا إلا حقيقة واحدة فقط وهي الوضع اللغوي فإذا استُعمِلت الكلمة بالمعنى الذي وضعته له العرب فهو حقيقة ، إذا استُعمل في غير ذلك فهو مجاز ، هذا بناءً على التعريف الأول ، أما بناءً على التعريف الثاني فعندنا ثلاث حقائق فإذا كنا من أهل الشرع وتكلمنا في المسائل الشرعية فتكلمنا بالاصطلاحات الشرعية على المعنى الشرعي فهذا الكلام يُعتبر حقيقة ، إذا استعملنا الكلمات في غير المعنى الشرعي يكون مجازاً ، كذلك أهل العُرف إذا استعملوا الكلمة بناءً على وضعهم العرفي تكون حقيقة ، وإذا استعملوها على غير ذلك على المعنى اللغوي أو المعنى الشرعي تكون مجازاً ، هذا على التعريف الثاني ؛ وهو التعريف الأقوى والأصح .
ثم هنا مسألة مهمة جداً ؛ إذا كانت عندنا ثلاث حقائق حقيقة شرعية وحقيقة عرفية وحقيقة لغوية فإذا مرّت بنا مسألة في الشرع في الكتاب أو في السُّنة فعلى أي حقيقة تُحمل ؟
تُحمل على الحقيقة الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية ، هذا هو الصحيح ، فإذا مرت بنا كلمة الصلاة في الشرع في آية أو في حديث ، فعلى أي معنى نحملها ؟
نحملها على معنى الأفعال المخصوصة التي تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم ، فإذا تعذَّر ذلك ولم يمكن ؛ لوجود قرينة معينة ؛ عندئذ نرجع إلى العُرف ، فإن لم نجد في العرف استعمالا خاصا رجعنا إلى اللغة . هذه مسألة مهمة جداً وتمر بنا في مسائل كثيرة في الكتاب والسنة ، وكثير من الكلمات لها معنى في اللغة ولها معنى آخر في الشرع وإن كنا نجد أصل المعنى متحداً ؛ لكن أصل الشرع تجده قد غيّر فيها إما خصَّصها في بعض الأمور أو عمَّمها أكثر كالصلاة مثلاً ؛ فالصلاة في اللغة الدعاء - معنىً عام -خصَّصها الشارع بالأفعال المخصوصة التي تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم . الصيام لغة الإمساك فيشمل الإمساك عن الكلام والإمساك عن الطعام والإمساك عن الشراب والإمساك عن أي شيء ؛ لكنه في الشرع الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس فإذاً هو إمساك مخصوص والصلاة صلاة مخصوصة . الإيمان في اللغة هو التصديق ، أما في الشرع فأعمّ ؛ فهو تصديق قلبي وتصديق قولي وتصديق عملي فيشمل اعتقادا بالقلب وقولا باللسان وعملا بالجوارح والأركان ، فالأصل عندنا في الشرع أن نحمل الكلام على المعنى الشرعي، فإذا تعذر ذلك رجعنا إلى المعنى العرفي ثم إذا تعذر رجعنا إلى المعنى اللغوي .
ثم قال المؤلف رحمه الله : " فالحقيقة إما لغوية ، أو شرعية ، أو عرفية " هذا التقسيم صحيح بناءً على التعريف الثاني ، أما التعريف الأول فلا يتمشى معه إلا حقيقة لغوية فقط .
والحقيقة اللغوية : ما وضعها أهل اللغة كالأسد للحيوان المفترس .
أو شرعية : أي وضعها الشارع ، كالصلاة للعبادة المخصوصة .
أو عُرفية : وضعها أهل العُرف العام كالدابة مثلاً لذات الأربع وكالحمار والحصان وغيرها ، فأهل العرف العام يطلقون الدابة على هذا المعنى إلى يومنا هذا ، وهي في اللغة تطلق على كل ما يدب على الأرض مما يمشي على اثنتين أو يمشي على أربع أو يمشي على بطنه أو غير ذلك ، أي كل ما دَبَّ على الأرض .
وكذلك الحقيقة الاصطلاحية تدخل فيها الاصطلاحات العلمية التي ندرسها ؛ كاصطلاحات النحو واصطلاحات الحديث واصطلاحات الأصول هذه كلها تدخل في الحقيقة العرفية .