الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد,،
فهذا المجلس الثاني عشر من مجالس شرح الورقات أسأل الله أن ينفع بها
انتهينا من المجمل والمبيَّن ومن النص والظاهر والمؤول .
ومعنا الآن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال المصنف رحمه الله تعالى :
فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو لا يكون .
فيُحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا ، ومن أصحابنا من قال: يحمل على الندب ، ومنهم من قال: يُتوقف فيه . فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيُحمل على الإباحة
وإقرار صاحب الشريعة هو كقول صاحب الشريعة وإقراره على الفعل كفعله .
وما فُعِل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره عليه فحكمه حكم ما فعل في مجلسه
وأما النسخ فمعناه لغة الإزالة ، يقال :نسخت الشمس الظل إذا أزالته ورفعته وقيل: معناه النقل من قولهم: نسختُ ما في هذا الكتاب أي نقلته وحدُّه الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه .
ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم ، ونسخ الحكم وبقاء الرسم
الأفعال
"فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو لا يكون" ومقصود المصنف - رحمه الله - بقوله : " فعل صاحب الشريعة " أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لما انتهى رحمه الله من الأقوال ودلالاتها بدأ بالأفعال ؛ ما الذي يصلح أن يؤخذ منه حكم شرعي وما الذي لا يصلح أن يؤخذ منه ذلك ، فقسَّم أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين :
القسم الأول ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبداً ، وهو معنى قوله " على وجه القربة والطاعة " .
والقسم الثاني : ما فعله - صلى الله عليه وسلم - على غير وجه التعبد .
ثم قسَّم القسم الأول وهو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد إلى قسمين فقال :
فإن كان على وجه القربة والطاعة ؛
الخاص : وهو ما دل دليل على الاختصاص به ؛ فيُحمل على الاختصاص .
العام : ما لم يدل الدليل على أنه خاص ، فيحمل على أنه عام لجميع الأمة ؛ لأن الله تعالى قال { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب21/ ] .
إذاً فِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - التعبدي ينقسم إلى ما هو خاص به ، وإلى ما هو عام للأمة كلها ، والأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التعبدية أنها عامة للأمة كلها لقوله تبارك وتعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فالأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله ، والتأسي هو أن تفعل كما فعل - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه فعل ولا يجوز ادعاء الخصوصية في فعل من الأفعال إلا بدليل . فإن ادعى أحدهم بأن عملاً ما من أعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - خاص به طولب بالدليل على دعوى الخصوصية فإن دل الدليل على أن الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - وجب حمله على الاختصاص به ولا يجوز التأسي به فيه وذلك كزواجه - صلى الله عليه وسلم - وجمعه بين أكثر من أربع نسوة وكالوصال في رمضان ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصل يوماً بيوم في رمضان ولا يفطر ونهى أصحابه عن الوصال ، إذاً هذا فعل خاص به - صلى الله عليه وسلم- وقال :" إني لست مثلكم إني أَظَل يطعمني ربي ويسقيني " فورد دليل يدل على الخصوصية .
ثم بدأ المصنف - رحمه الله – بعد تقسيمه أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين أحكامها ؛ فقال :
" فيُحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا ، ومن أصحابنا من قال: يحمل على الندب ، ومنهم من قال: يُتوقف فيه . فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيُحمل على الإباحة "
لا شك أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التي على غير وجه القربة والطاعة كالأفعال الجبلّية أنها للإباحة لأن ذلك لم يقصد به التشريع ولم نُتعبد به ، كأصل الأكل والشرب والبول فهذه أشياء يفعلها من حيث هو بشر ولا يستغني عنها فلا يمكن تركها ، فعندما يجوع فإنه يأكل ، وكذا قضاء الحاجة جِبلي لابد له منه و لا يتمكن من تركه فهذه أفعال جبلية فَعَلَها بمقتضى الجبلَّة ؛ وهو غير كون الصفات التي تتصف بها هذه الأفعال ربما تكون تشريعية تعبدية كالأكل باليمين مثلاً والجلوس عند البول وهكذا لكن أصل هذا الفعل جبلي مفعول بمقتضى الجبلة .
فهذه الأفعال الجبلية كلها تُحمل على الإباحة كما ذكر المؤلف في آخر الفقرة التي سبقت .
وأما الأفعال التعبدية ؛ فالصحيح أنها تحمل على الاستحباب وفي المسألة خلاف ذكره المصنف ؛ فقال: " يحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا " وأصحابه هنا هم الشافعية ؛ فإن الجويني شافعي .
إذن فأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التعبدية التي ليست خاصة به يحملها بعض الشافعية على الوجوب .
قال " ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب" أي على الاستحباب .
أما البعض الآخر فقال : يُتوقف فيها .
والصحيح أنها تحمل على الاستحباب لأن الأصل براءة الذمة وعدم العقاب ؛ فلا يُلزَم الناس بشيء إلا بوجود دليل يلزمهم به ، والفعل فَعَلَه النبي - صلى الله عليه وسلم - تعبداً وقربة إلى الله تبارك وتعالى والله قال لنا { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } إذاً يُشرَع لنا أن نتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذه الشرعية تقتضي استحباب هذه الأفعال .
إذاً فالأصل في أفعاله – صلى الله عليه وسلم - أنها مستحبة إلا إذا كانت بياناً لمجمل ، وقد تقدم المجمل والمبين ؛ فإذا كانت هذه الأفعال بياناً لمجمل فحكمها حكم ما بيَّنته ، فإذا بينت واجباً فهي واجبة وإذا بينت مستحباً فهي مستحبة ، كقطع يد السارق مثلاً من الكوع بيانا لقوله تعالى { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة/ 38] ، وكالتيمم مثلاً الذي بيَّن - صلى الله عليه وسلم - كيفيته فهذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع اليد من الكوع وتيمُّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بضربه يديه على الصعيد ومسح وجهه بهما وكذلك كفيه ، هذه الأفعال هي بيان لمجمل فتعطى حكم هذا المجمل ، فصار التيمم على الصورة التي بيَّنها لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله واجبا ، كذلك قطع اليد من الكوع لما قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - اليد من الكوع بيَّن لنا الإجمال الذي في آية { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } فإن اليد تكون من الأصابع إلى الكتف فمن أين نقطع ؟ بيَّنه - صلى الله عليه وسلم - بفعله فأصبح فعله واجباً علينا فنقطع من الكوع ، فهذه الأفعال التي تسمى البيانية أو المبيِّنة تعطى حكم ما بيَّنَتْه .
وقال رحمه الله : " وإقرار صاحب الشريعة هو كقول صاحب الشريعة وإقراره على الفعل كفعله "
ثم انتقل المؤلف بعد أن انتهى من الفعل إلى الإقرار ، والإقرار : هو سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار فعل أو قول قيل أو فُعِل في حضرته أو في زمنه من شخص غير كافر ، أما أفعال الكفار فلا عبرة بها ، العبرة بأفعال المسلمين ، إذا فعل مسلم فعلاً أو قال قولاً في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكت - عليه الصلاة والسلام - فلم ينكر عليه فهذا يسمى إقراراً ؛ فما حكمه ؟
قال المصنف : " وإقرار صاحب الشريعة على القول هو كقول صاحب الشريعة " لا فرق في الحكم ، وكذلك إقراره على الفعل كفعله . فلنقل مثلا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى خالداً يأكل ضباً وسكت ، فنأخذ من هذا جواز أكل الضب أي كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل الضب لأنه رأى خالداً يأكل الضب وسكت عنه . وكذلك إذا قال أحدهم قولاً أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلاً كقول الجارية " في السماء " لما قال لها " : أين الله " فقال : " اعتقها فإنها مؤمنة " ، فإنه لما قالت هذه الجارية الله في السماء ؛ هذا حكمه كحكم قول النبي - صلى الله عليه وسلم- تماماً ؛ يعني كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله في السماء ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسكت على باطل ؛ لأن السكوت على الخطأ تأخير للبيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز .
وقد بوَّب الإمام البخاري - رحمه الله - باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة لا من غير الرسول . أي أن الحجة في إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط لا من غيره وهذا هو الصواب .
قال المصنف - رحمه الله - : " وما فُعِل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره عليه فحكمه حكم ما فعل في مجلسه "
ما فُعِل في وقته - صلى الله عليه وسلم - في غير مجلسه ، أي ليس في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أي فعل بعيداً عنه لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم به ولم ينكره على فاعله ، قال المؤلف: فحكمه حكم ما فعل في مجلسه لا فرق بين أن يُفعل في مجلسه أو أن يُفعل بعيداً عنه .
لكن ظاهر كلام المؤلف أنه يشترط أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم بهذا الفعل ، والصحيح خلاف مفهوم كلام المصنف إن أراده ، لو لم يصرَّح به ؛ فبما أن الفعل فُعِل أو القول قيل في زمن التشريع في زمن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كما لو قيل أو فعل في حضرته لا فرق ، سواء بلغنا أنه علم أو لم يبلغنا .
لأن الله تبارك وتعالى اطلع على هذا الفعل ؛ فلو لم يكن مشروعاً لنزل إنكاره . وهذا مبني على قول جابر بن عبد الله الصحابي الجليل ، فإن علم الأصول يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر بن عبد الله مأصِّلاً لهذا الأصل :"كنا نعزل والقرآن ينزل " ومعناه العزل عن النساء عند الجماع وأنه لو كان هذا العزل شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن والله أعلم .
إذاً هذا جابر بن عبد الله استدل على جواز الفعل بأنهم كانوا يفعلونه في وقت نزول القرآن ، وعلموا أنه لو كان فعلاً لا يريده الله تبارك وتعالى فسينزل الإنكار عليهم .
إذاً فالفعل أو القول إذا قيل أو فعل من مسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يَرد إنكاره فهو حجة كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كقوله . هذا ما ذكره المصنف رحمه الله مما يتعلق بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم .
النسخ
بدأ المؤلف بعد انتهائه من الأفعال بالنسخ ، وهو موضوع مهم جدا في علم الأصول ، وهو من علوم القرآن ولكنه لا يختص بالقرآن ؛ بل يرد على القرآن وعلى السنة .
فقال - رحمه الله " : -وأما النسخ فمعناه لغة الإزالة ، يقال :نسخت الشمس الظل إذا أزالته ورفعته وقيل: معناه النقل من قولهم: نسختُ ما في هذا الكتاب أي نقلته وحدُّه الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه "
بدأ المصنف - رحمه الله – أولا بتعريف النسخ لغة ، ثم عرَّفه اصطلاحاً ، فذكر أن النسخ في اللغة يطلق على الإزالة والرفع ، تقول : نسخت الريح الأثر أي أزالته ونسخت الشمس الظل أي أزالته ورفعته .
إذاً فالنسخ في اللغة بمعنى الإزالة والرفع ، ويستعمل النسخ أيضاً في اللغة بمعنى النقل تقول : نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته وعبَّر بعض العلماء عنه بقولهم : ما يشبه النقل ولم يقل النقل ؛ لماذا ؟
قالوا: لأن نسخ الكتاب حقيقة ليس نقلاً لما في الكتاب فلو كان عندنا كتاب أردنا نسخه على كتاب آخر هل سنزيل الأحرف والكلمات من الكتاب الأصل ونضعها في الفرع ؛
الجواب : لا ؛ بل سننقل الصورة ، فهو يشبه النقل .
والبعض قال : لا داعي لكل هذا التنطع ؛ فالنسخ بمعنى النقل مفهومٌ المراد منه فلا داعي لمثل هذا ؛ لكن الدقة في العبارة جيد أيضاً ؛ فهذا تعريف النسخ من ناحية اللغة .
وأما النسخ شرعاً فإن المؤلف - رحمه الله - عرَّف الناسخ ولم يعرِّف النسخ فقال: الخطاب الدال على رفع الحكم ... إلى آخر كلامه .
ونحن نقول : الخطاب الدال على رفع الحكم هو الذي نسخ الحكم وليس هو النسخ بنفسه ، والخطاب الذي يدل على رفع الحكم هو الآية أو الحديث ؛ وهذا هو الناسخ .
وأما النسخ شرعاً فهو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، وأكثر أهل الأصول اعتمدوا هذا التعريف في تعريف النسخ . وقد قال ابن كثير – رحمه الله - : " وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ،والأمر في ذلك قريب ؛لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولخص،بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر " .
وقد ذكر هذا في تفسيره عند تفسير آية { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [البقرة / 106] .
قال عبارات الأصوليين كثيرة في تعريف النسخ ولكنه معروف عند العلماء ما المراد به ، رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر . وبالمثال يتضح الأمر .
قول الله تبارك وتعالى : { إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مّاِئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال/ 65 ] وهذه الآية والتي بعدها تسمى آية المصابرة ؛ وهذا خبر ، جاءت هذه الآية بصيغة الخبر ولكنها بمعنى الأمر ؛ وكان هذا يوم بدر ؛ فرض الله على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين وحرَّم عليه أن يفر منهم ؛ هذا حكم ، فثقلت هذه الآية على المؤمنين فخفف الله عنهم ونسخها بقوله تعالى { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مّاِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ]الأنفال66/ ] وهذه الآية أيضاً تسمى آية المصابرة .
إذن هذه الآية التي أولها { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ } نسخت الحكم الأول ، عندنا حكم أول وهو عدم جواز الفرار أمام العدو إذا كانوا عشرة فما دون وقد نسخ هذا الحكم بالآية الثانية التي هي { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ...} .
فإذاً النسخ هو " رفع الحكم الشرعي " والحكم الشرعي عندنا هنا في المثال وجوب مقابلة العشرة فما دون ، وهذا الحكم الشرعي مرفوع " بدليل شرعي " والآية الثانية هو الدليل الشرعي الذي ذكرناه ، وهي آية نزلت بعد الآية الأولى فهي متأخرة عن الآية الأولى التي أثبتت الحكم الأول ، إذاً فلا بد من معرفة المتقدم والمتأخر للحكم بالنسخ ، وهذا هو معنى النسخ ."
مثال آخر : قوله - صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة" " فيدلك هذا على وجود نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة القبور متقدم ؛ فقال : " فزوروها فإنها تذكركم الآخرة " ؛ الآن هذا الحديث قوله " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ...إلخ " جاء متأخراً عن الحكم الأول الذي هو تحريم زيارة القبور لكن هذا الحكم الأول الذي هو تحريم زيارة القبور رُفع بهذا الحديث وهو الدليل الشرعي وهو متأخر عن الحكم الأول .
وهذا معنى النسخ
فما هو دليل النسخ ؟ أي ما الدليل على جواز النسخ والقول به ؟
الدليل قول الله تبارك وتعالى { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }[ البقرة /106 ] فهذه الآية دليل على ثبوت النسخ شرعاً ، ويدل أيضا على جواز وقوعه كما مثلنا لكم وكما ستأتي صور أخرى ، وصوره كثيرة في الكتاب والسنة وأُلِّفت فيه كتب كثيرة في الناسخ والمنسوخ .
ثم قال المصنف - رحمه الله - :" ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم ، ونسخ الحكم وبقاء الرسم "
هذه أقسام النسخ باعتبار بقاء المنسوخ وعدمه وهي ثلاثة أقسام ، وينبغي أن نعلم أن المراد بالرسم هنا اللفظ .
القسم الأول : نسخ الرسم وبقاء الحكم ، أي يجوز نسخ الآية من المصحف بمعنى أنها لا تكتب في المصحف ولا تُثبَت فيه ولا تُتلى مع ما يتلى من القرآن ولا يُتعبد الله سبحانه وتعالى بتلاوته مع أن الحكم الذي دلت عليه الآية باقٍ أي مستمر التكليف فيه .
فهذا معنى نسخ اللفظ وبقاء حكم الآية المنسوخ لفظها ، ومثلوا لذلك بآية الرجم ؛ " والشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " فهذه آية نُسخ لفظها من القرآن ولم تعد تُقرأ فيه ، يعني أنها كانت تُقرأ في القرآن لكنها رفعت ونسخت فلا تقرأ ولا تكتب فيه و لكن حكمها باقٍ ، وحكمها هو أن الزاني المحصن والزانية المحصنة يُرجما وهذا المراد بالشيخ و الشيخة .
وآية الرجم مذكورة في " الصحيحين " ، ومن ادعى بأن ذكر آية الرجم لا يثبت فهو مخطئ ، فآية الرجم في الصحيحين من حديث عمر ، ذكر أنها آية من كتاب الله فقال عندما كان يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأُنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم " هذا كلام عمر ، قال " فقرأناها و عقلناها ووعيناها رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله... " إلى آخر كلامه ، فأثبت عمر رضي الله عنه أن مما أُنزل في الكتاب آية الرجم ، إذاً آية الرجم وكونها كانت تتلى في كتاب الله هذا ثابت لا إشكال فيه وهو في الصحيحين من كلام عمر رضي الله عنه وأنها منسوخة كذلك ولكن الخلاف حاصل في ثبوت اللفظ هذا الذي ذكرناه وهو " : والشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " ، هذا الذي حصل فيه خلاف هل هذا اللفظ نفسه هو الذي كان ثابتاً أم لا ، وصحح هذا اللفظ غير واحد من أهل الحديث آخرهم الإمام الألباني - رحمه الله - في "الصحيحة" . والشاهد هو جواز نسخ اللفظ وبقاء الحكم . والحكمة من ذلك اختبار الأمة بالعمل بما لا يجدون لفظه في القرآن ، يختبرهم الله سبحانه وتعالى ويمتحنهم هل سيؤمنون بهذا أم لا ؟ .
هذا بالنسبة للقسم الأول
أما القسم الثاني : وهو نسخ الحكم وبقاء الرسم
يعني نسخ الحكم وبقاء اللفظ ، هذا كثير في القرآن وقد قدمنا مثالاً لذلك وهو آيتا المصابرة ، الآية الأولى حكمها منسوخ مع أنها ما زالت تُقرأ وتتلى في كتاب الله لكن حكمها منسوخ . وكذلك قول الله تبارك وتعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة/184 ] ، أي أن الصحيح القادر على الصيام كان مخيَّراً بين الصيام والفدية فنُسخ التخيير بقوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة / 184 [فألزمه بالصيام ولا تُقبل منه الفدية ، إذن فالآية الأولى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فيها حكم التخيير هذا الحكم متقدم ، والآية الثانية { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذه الآية دليل شرعي متأخر رافع للحكم الأول وهذا النسخ . وبقيت الآية الأولى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ }...إلخ آية تتلى في كتاب الله ولكن حكمها مرفوع .
القسم الثالث : نسخ الحكم واللفظ معاً ، أي يجوز نسخ الحكم واللفظ معاً ، ومثاله نسخ عشر رضعات إلى خمس قالت عائشة : " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ثم نُسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ فيما يُقرأ من القرآن" أي لقرب العهد بالنسخ ، فإن بعض الناس لم يبلغهم النسخ فلما بلغهم تركوا ، إذاً هذه العشر رضعات كانت فيما يتلى في كتاب الله فنسخت ونسخت أيضاً العشر إلى خمس فالحكم منسوخ واللفظ منسوخ .
فهذه صور النسخ ؛ إما أن يُرفع الحكم واللفظ أو أن يُنسخ الحكم ويبقى اللفظ أو أن ينسخ اللفظ ويبقى الحكم .
ثم قال المصنف رحمه الله : " والنسخ إلى بدلٍ وإلى غير بدل ، وإلى ما هو أغلظ وأخف "
وهذا تقسيم آخر للنسخ ، فمن جهة أخرى فإنه ينقسم إلى نسخ لبدل ونسخ إلى غير بدل
أولا : نسخٍ إلى بدل ؛ ونعني به أن يُرفع الحكم الأول ويأتي مكانه حكمٌ آخر بدله ، هذا معنى النسخ إلى بدل .
وقد قال بعض أهل العلم : لا يجوز النسخ لغير بدل بل النسخ كله إلى بدل فلا يُرفع حكم إلا ويأتي حكم آخر مكانه والبعض قال كما قال المصنف رحمه الله ؛ وأنه يوجد نسخ إلى غير بدل .
والنسخ إلى بدل كثير وينقسم إلى : أخف أو أثقل أو مساوي