ثم قال المؤلف بعد أن انتهى من التعريف: "فلا يُدرك حكم إلّا من الله"، لمّا عرَّفنا أنّ الحكم الشرعي هو خطاب الله تبارك وتعالى إذن فلا يُدرك حكم إلا من الله تبارك وتعالى، لا يَحكم إلا ربّ العالمين، هذا أمر متفق عليه بين جميع المسلمين، الحكم لا يكون إلا لله، حصل النزاع أين؟ في طريقة إدراك حكم الله، في طريقة معرفة حكم الله، المسلمون على أنّ طريقة معرفة حكم الله تكون عن طريق الرسل، فالرسل هم الذين يعرفوننا بما يريده الله منا وما لا يريد، هذا أمر متفق عليه، خالفت المعتزلة وأثبتوا أن العقل يُمكنه أن يعرف حكم الله فقالوا بالتحسين والتقبيح العقلي، هنا تأتي هذه المسألة، هذه ستمر بكم كثيراً، التحسين والتقبيح العقلي، ما المقصود بالتحسين والتقبيح؟ من المهم جداً أن نعرف أنّ الألفاظ إذا حصل نزاع فيها ولم يكن لها معنىً معروف في الكتاب والسنة واضحاً لابد من معرفة مراد المتكلم بذلك الاصطلاح قبل أن يثبت الاصطلاح أو أن ينفى، عندما يأتيك شخص ويتحدث عن التحسين والتقبيح العقلي ويقول لك العقل يُحَسّن ويُقَبّح أو يقول العقل لا يُحَسّن ولا يُقَبّح، تحتاج أول الأمر أن تقول له ماذا تعني بالتحسين والتقبيح؟ هذا أول أمر تناقشه فيه، ماذا تعني بالتحسين والتقبيح؟ حتى تفهم مراده، ثم بعد ذلك يُنفى أو يُثبت أو يُفصّل في ذلك.
الحُسن والقُبح يطلق لثلاث اعتبارات:
الاعتبار الأول: بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، فما لائم الطبع فهو حَسَن وما نافر الطبع فهو قبيح، ما لائم الطبع مثل انقاذ الغريق، الطباع السليمة عند البشر، هذا المقصود بملائمة الشرع، ملائمة الطباع السليمة عند البشر، انقاذ الغريق حسن أم قبيح؟ حسن، اتهام البريء هذا قبيح، لا إشكال في ذلك، فمعنى التحسين والتقبيح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، هذا يثبته العقل أو يعرفه العقل، يدركه العقل من غير حاجة إلى الرجوع إلى الشرع، هذا الحكم فيه حكم عقلي لا إشكال فيه.
الاعتبار الثاني: وهو بمعنى الكمال والنقص، فالحَسن ما أشعر بالكمال، والقَبيح ما أشعر بالنقص، كصفة العلم مثلاً هذا حسن، صفة الجهل هذا قبيح، وهذا أيضا يُدرك بالعقل.
الاعتبار الثالث: بمعنى الثواب والعقاب، الاعتبار الثالث بمعنى المدح والثواب والذم والعقاب، هذا محل نزاع بين الطوائف هذا الأخير.
· فالفرقة الأولى: أثبتوا الحُسن والقُبح العقليين، بمعنى أنَّ العقل يُدرك الحُسن والقُبح، فهو يُحَسّن ويُقَبّح من غير الرجوع إلى الشرع، وهذا مذهب المعتزلة.
· القول الثاني: نفي الحُسن والتقبيح العقليين، بمعنى أنَّ العقل لا يُدرك الحُسن والقُبح، فالعقل عندهم لا يُحَسّن ولا يُقَبّح، فالأفعال نفسها لا توصف بحُسن ولا بقُبح، مردّ ذلك إلى الشرع، فإذا الشرع نهى عن الفعل فهو قبيح، وإذا أمر بالفعل فهو حسن، أمّا العقل عندهم لا يُحَسّن ولا يُقَبّح، وهذا قول الأشاعرة.
· أما مذهب أهل السنة فهو وسط بين هذين المذهبين، العقل عند أهل السنة والجماعة يُحَسّن ويُقَبّح، يرى أنَّ الفعل هذا حسن، بمعنى أنّ العقل يستحسنه، ويرى أن هذا الفعل قبيح، بمعنى أن العقل يُقَبّحه ولا يراه حسناً، لكن لا يترتب الثواب والعقاب والمدح والذم شرعاً إلّا بعد ورود الشرع، فالعقل لا علاقة له بمسألة الثواب والعقاب، لا علاقة له بذلك وإن أدرك حُسن الشيء وقُبحه، لكن مسألة الثواب والعقاب متوقفة على الشرع، لقول الله تبارك وتعالى: ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﭼ، هذا دليل من أدلة كثيرة تدل على أنَّ العقاب والثواب معلق بالرسل، ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﭼ، والآيات في هذا المعنى كثيرة تدل على أنَّ الثواب والعقاب لا يكون إلّا بعد بلوغ الرسالة، إذن فالعقل وإن حَسَّن وقَبّح لكنّه لا يترتب على تحسينه وتقبيحه لا ثواب ولا عقاب، ثم حتى وإن حسن وقبح لا يعني ذلك أنَّ العقل يدرك كل شيء ويُحسّن كل شيء ويُقبّح كل شيء، لا، هناك أشياء كثيرة العقل لا يستطيع أن يدرك حُسنَها من قُبحِها وهل من ورائها مصالح أم مفاسد، أشياء كثيرة يتوقف العقل فيها، فمثل هذه يأتي الشرع بما يبين المصلحة والمفسدة فيه، لكن أن يأتي الشرع بما يناقض العقل هذا مستحيل، لا يوجد، العقول السليمة البشرية تدرك أن الشيء حسن ويأتي الشرع بما يناقضها، هذه ما فيه، لا يوجد شيء كهذا، العقل الصحيح الصريح لا يُنافي النقل الصحيح، العقل الصريح لا ينافي النقل الصحيح، أبداً، لكن ربما يأتي الشارع بأشياء العقل يقف فيها فلا يعرف، يحار فيها فمثل هذه يأتي الشارع ويبين المصلحة من المفسدة فيها.
هذا هو القول في مسألة التحسين والتقبيح، وبناء على هذه المسألة بُنيت المسألتان اللتان بعدها وهي مسألة شكر المنعم ومسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع، لذلك قال المؤلف رحمه الله: - وعندنا - تقدم معنا في المقدمة عندما يقول المؤلف: - وعندنا - يشير إلى مخالفة المعتزلة، "وعندنا (أي عند الأشاعرة) خلافاً للمعتزلة أنَّ الحُسن والقُبح بمعنى ترتب الذمّ حالاً والعقاب مآلاً شرعيان"، لا شك أن الحُسن والقُبح بمعنى الثواب والعقاب والذم والمدح شرعيان، لكن ليس معنى ذلك أنّ العقل لا يُحسّن ولا يُقبّح كما تقوله الأشاعرة، لا، كلام باطل غير صحيح بل العقل يُحسّن ويُقبّح، لكن الأحكام الشرعية: الثواب والعقاب والذم والمدح لا يَثبُت إلا بورود الشرع، ومن أراد مزيد بيان في هذه المسألة له أن يراجع شرح الكوكب المنير المجلد الأول صفحة ثلاثمائة، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام المجلد الثامن صفحة أربعمائة وواحد وثلاثين، وقد لخص الكلام فيها صاحب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة صفحة ثلاثمائة واثنان وثلاثون.
والمسألة الثانية قال المؤلف: "وأنَّ شُكر المنعم واجب بالشرع"، ما المراد بشكر المنعم؟ صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من النعم من سمع وبصر وصحة وعافية ... إلى آخره، صرفه إلى ما خُلق له من عبادة الله وطاعته وصرف هذا كله في طاعة الله تبارك وتعالى، هذا معنى شكر المنعم، شكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعم عليك من نعم، هل هذا واجب بالشرع أم واجب بالعقل؟ المسألة متوقفة على ما قبلها، الوجوب الشرعي بمعنى الثواب والعقاب هذا واجب بالشرع لا بالعقل، لكن العقل يُدرك حُسن ذلك، العقل يُحسّن ذلك فهو من الناحية العقلية يُدرك بأنه حسن، حتى من الناحية الفطرية تستحسن هذا، ما من عاقل إلّا وهو يُدرك أنَّ شكر المنعم حق عليه فهي بمعنى ترتب الثواب والعقاب عليه لا شك بأنها شرعية كمسألة التحسين والتقبيح نفسها، هذه لا فرق، فرع عنها.
ثم قال: "وأنه لا حكم قبله، بل الأمر موقوف إلى وروده"، لا حكم قبله، أي لا حكم شرعي قبل البعثة، قبل بعثة الأنبياء والرسل، هنا لا يوجد حكم شرعي بناءً على قول المعتزلة أنَّ العقل يُحسّن ويُقبّح حتى وإن لم يكن هناك رسل يوجد تحريم وإباحة لماذا؟ لأنهم يُدركون ذلك بعقولهم في زعمهم، يدركون أحكام الله من غير إيجاد رسل، لذك أوجبوا وحرموا قبل البعثة، لكن عند أهل السنة لا حكم شرعي قبل البعثة، بمعنى الثواب والعقاب، لقول الله تبارك وتعالى: ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﭼ، فمن لم تبلغه الدعوة لا عقاب عليه لماذا؟ لأنه لم تبلغه دعوة الرسل، فالثواب والعقاب والمدح والذم متوقف على دعوة الرسل.
نعم يُدرك العقل حُسن الأشياء وقبحها لكن لا يترتب على ذلك مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، هذا خلاصة القول في هذا الموضوع إذن حكم الأشياء قبل بعثة الرسل يكون ماذا؟ نقول لا حكم شرعي قبل بعثة الرسل، بمعنى أنَّ الشخص لا يُثاب ولا يُعاقب مالم يرد شرع في ذلك لقول الله تبارك وتعالى: ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﭼ.