تفريغ الدرس السادس من دروس لب الأصول
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
انتهينا في الدرس الماضي من الأحكام التكليفية التي فيها طلب، يطلب الله -سبحانه وتعالى- بفعلٍ أو بتركٍ، يأمر الله تبارك وتعالى عباده فيها بفعلٍ أو بتركٍ، هذه الأحكام التكليفية، وما كان فيه تخيير كالإباحة أيضاً ألحقت بها، اليوم سنتمم موضوع الأحكام التكليفية، ثم سنبدأ إن شاء الله بالأحكام الوضعية.
قال المؤلف رحمه الله: "والأصح ترادف الفرض والواجب"، ذكر في المقدمة أنّه إذا قال "الأصح": فمعنى ذلك أنَّ المسألة فيها خلاف والأصح عندهم، عند المؤلف وعند الشافعية وعند أيضاً الحنابلة إلّا في قول لهم وعند المالكية كذلك أنّ الفرض والواجب مترادفان، ما معنى مترادفان؟ من الألفاظ المختلفة لكن المعنى واحد، الألفاظ مختلفة لكن المعنى واحد، بناءً على ما عرّفنا الواجب فيما تقدم فيكون الفرض بمعنى الواجب وهو ما أمر به الشارع أمراً جازماً، هذا يُعتبر واجباً، هذا عند جمهور العلماء أنّه لا فرق بين الفرض والواجب، وأمّا عند الأحناف، فالأحناف يُفرّقون بينهما، الأحناف يُفرّقون بين الفرض والواجب، فيقولون الفرض: ما ثبت بدليل مقطوع به، كالصلوات الخمس مثلاً ثبتت بأدلة القرآن وأدلة السنة المتواترة، إذن فدليلها مقطوع به، فهذا يُسمى عند الأحناف فرضاً لأنه ثبت بدليل مقطوع به، ويعنون بالدليل المقطوع به الآية القرآنية أو الحديث المتواتر، ونحن عندنا أيضاً أنّ حديث الآحاد إن احتف بالقرائن كذلك هو دليل مقطوع به، فإذا ثبت الحكم بدليل مقطوع به عندهم يسمونه فرضاً أمّا إذا ثبت بدليل ظنّي فهذا يُسمى عندهم واجباً، كحكم الوتر مثلاً، ثبت عندهم بدليل ظني فيسمونه واجباً، وعلى قول من يقول بأن سترة المصلي واجبة يكون هذا في اصطلاح الأحناف واجباً وليس فرضاً لأنه ثبت بدليل ظنّي وليس دليلاً يقينياً، هذا التفصيل ذهب إليه الأحناف واعتمدوا في ذلك على الفرق اللغوي بين الفرض والواجب، فقالوا الفرض في اللغة هو الحجز في الشيء والتأثير فيه، والواجب هو الساقط واللازم، فبينهما فرق، ففرقوا من الناحية الاصطلاحية والمسألة كلها مسألة اصطلاح، فلا مشاحة في الاصطلاح.
ثم قال المؤلف رحمه الله: "كالمندوب والمستحب والتطوع والسنة، والخلف لفظي"، أيضاً يعني الفرض والواجب مترادفان، وهما مترادفان كترادف المندوب والمستحب والتطوع والسنة، فهذه أيضاً مترادفة، يعني أنّها ألفاظ مختلفة لكن المعنى في النهاية شيء واحد، المندوب، المستحب، التطوع، السنة، الحسن، النفل، المرغب فيه، كلّها ألفاظ تُستعمل لمعنى واحدٍ عند بعض أهل العلم ومنهم الشافعية، لكن خالف في ذلك أيضاً بعض الشافعية ففرّقوا، فقال الفعل إن واضب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو السنة، وما فعله مرة أو مرتين فهو المستحب، وما لم يفعله وإنّما أنشأه الإنسان باختياره من الأوراد فهو تطوع، والباقي يعم الأقسام الثلاثة عندهم، وهذا كلّه أيضاً اصطلاحات لذلك قال المؤلف في النهاية والخلف لفظي، أي المسألة مسألة اصطلاحية، مسألة أسماء تسمية، سمّ أنت ما تشاء من اصطلاحات فالخلاف اصطلاحي لا تأثير فيه.
قال المؤلف رحمه الله: "وأنّه لا يجب إتمامه"، أي والأصح أنّه لا يجب إتمام المندوب الذي هو المستحب، لا يجب إتمام المندوب بعد الشروع فيه، الآن الشروع في المندوب واجب؟ لا، هو مندوب، فالشروع فيه يعني البدء فيه، هذا ليس واجب، هذا مستحب، كصيام عرفة مثلاً، هذا عمل مستحب، بدئك به، تنوي أن تصوم وتبدأ بالصيام، هذا مستحب لكن إذا نويت وصمت وبدأت بالصيام هل يجب أن تتمه أم يجوز لك قطعه؟ هنا المسألة، هذه هي المسألة المطروحة هنا، وقال: "وأنّه لا يجب إتمامه"، أي المندوب بعد الشروع فيه، هل يجب عليك أن تتمه أم يجوز لك أن تقطعه؟ في هذه المسألة نزاع، المؤلف قال: "وأنّه لا يجب إتمامه"، إذن المؤلف يختار أن المندوب لا يجب الشروع فيه ولا يجب كذلك إتمامه، فيجوز لك أن تتمه، وقلنا المسألة فيها نزاع، نازع فيها الأحناف والمالكية على تفصيل عندهم في الموضوع، والجمهور خالفوهم فيما ذهبوا إليه، فالآن المسألة عندنا منها ما هو ليس محلاً للنزاع وهو مسألة إتمام الحج والعمرة، هذه لا إشكال في أنّ إتمامها واجب، حتى وإن كانت نفلاً، إن كان حجك نافلة أو كانت العمرة نافلة، إتمامها واجب لماذا؟ لقول الله تبارك وتعالى: ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﭼ، فهذا أمرٌ والأمر يفيد الوجوب، إذن يجب علينا أن نتم الحج والعمرة، هذا لا إشكال فيه، طيب، الإشكال أين أتى؟ في مسألة الصلاة والصيام وأيضاً فيه هناك أشياء الأئمة الأربعة على أنّه لا يجب إتمامها كالأذكار مثلاً والصدقة وغيرها، لكن النزاع حاصل في الصلاة والصوم مثلاً، الآن إذا بدأت بالصلاة النافلة هل يجب عليك إتمامها؟ وإذا بدأت بالصوم النافلة هل يجب عليك إتمامه؟ هنا محل الخلاف والنزاع، فهل الصلاة والصيام كالحجّ أم أن الصلاة والصيام كالأذكار؟ هنا محل الخلاف والذين قالوا بأنّه يجب إتمام المندوب بعد الشروع فيه استدلوا بأدلة منها:
قول الله تبارك وتعالى: ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ، طيب.
والدليل الثاني: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي سأل فيه الأعرابي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلوات الخمس، قال: هل عليّ غيرها؟ قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا إلّا ان تطوع"، وسأله عن الصيام فقال له: "لا إلّا أن تطوع"، فقالوا هنا قد ألزمه بالتطوع.
الدليل الثالث لهم هو القياس، قاسوا الصلاة والصيام على الحجّ والعمرة، بجامع أنّها كلّها نفل، أي نعم، طيب.
الآن أدلة الذين قالوا بأنّه لا يجب إتمامه استدلوا بماذا؟ استدلوا بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وبقوله في مسألة الصيام، فقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين أنّه كان صائماً ثم أفطر، وهذا واضح في دلالته، وكذلك جاء في حديث أم هانئ أنّها أفطرت وكانت صائمة وذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: "أكنت تقضين شيئاً؟"، كان عليك قضاء؟، قالت: لا، قال: "فلا يضرك إن كان تطوعاً"، أخرجه أبو داود، هذا واضح أيضاً في أنّه يجوز قطع النفل في الصيام، تمام، هذا حديث فعلي وحديث قولي، وجاء من الآثار عن السلف في ذلك كثير أنّهم أجازوا قطع الصيام، ومن الآثار التي تبين لنا هذه القاعدة بشكل صحيح أثر جاء عن عطاء، أنّه قال: "إنّ ابن عباس كان لا يرى به بأساً، أن يفطر إنسان التطوع، ويضرب لذلك أمثالاً: رجل طاف سبعاً فقطع ولم يوّف فله ما احتسب، أو صلى ركعة ولم يصلّ أخرى قبلها فله ما احتسب، أو يذهب بمال يتصدق به ويتصدق ببعضه وأمسك بعضه"، أخرجه عبد الرزاق وهو ثابت، وهو واضح من كلام ابن عباس -رضي الله عنه- في تقرير هذه القاعدة، طيب.
إذا صحت هذه الأدلة، الآن كيف يُردُّ على أدلة تلك المخالفين:
أما الآية فقال ابن عبد البر رحمه الله رداً عليهم: "من احتج على المنع بقوله تعالى ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ، فإنّه جاهل بأقوال العلماء، فإنّهم اختلفوا فيها على قولين"، السلف اختلفوا في تفسير هذه الآية على قولين لا ثالث لهما، "فأكثرهم قالوا لا تبطلوها بالرياء، وأخلصوها لله تبارك وتعالى وهم أهل السنة، وقيل: لا تبطلوها بالكبائر وهو قول المعتزلة"، المعتزلة يجعلون مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، وهو في الآخرة مُخلد في نار جهنم، فهذا القول بناء على مذهبهم، أمّا أهل السنة فقالوا لا تبطلوها بالرياء، طيب.
أمّا الحديث فالجواب عنه أنَّ الاستثناء فيه استثناء منقطع، أي: لكن لك أن تطّوع، طيب، إذا قيل: ما الدليل على أنّه استثناء منقطع وليس استثناءً متصلاً؟ قلنا لهم: الدليل فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله يدل، بما أنّه قطع النفل إذن يدل على جواز قطع النفل، إذن فلابد من فهم الحديث على هذا المعنى، طيب.
الدليل الأخير وهو القياس فيجيب عنه المؤلف، قال: "ووجب في النسك"، يعني أنه لا يجوز، لا يجب إتمامه المندوب، لكنّ المندوب في النسك يجب إتمامه، ماذا يقصد بالنسك؟ الحجّ والعمرة ولفظه هنا أدق من لفظ البعض الذين قالوا بأنّه يجب في الحجّ، فكلامه أعم وموافق للآية، "ووجب في النسك لأنه كفرضه نية وغيرها"، هنا حصل الردّ على الذين يقيسون الصلاة والصيام على الحجّ، يجب إتمام تطوع النسك لأنّه مثل فرض الحجّ والعمرة، لماذا قلنا بوجوب إتمام النفل من الحجّ والعمرة؟ قالوا: لأنه مثل فرض الحج والعمرة، لا يختلف عنه، مثله في ماذا؟ قال: مثله في النية، هنا قال: "لأنه كفرض نية"، هذا محل الكلام، يعني لأنّ نفل الحجّ والعمرة كفرض الحجّ والعمرة في النية، فالنية في الفرض والنفل شيء واحد، وهي قصد الدخول في النسك، أي التلبس به، هنا النفل نفس الفرق لا يختلفان، وكذلك نفل الحجّ والعمرة كفرضهما في غير النية، عندما قال: "بأنه كفرضه نية وغيرها"، أيضاً ليس فقط هو مثله في النية، لا، أيضاً نفل الحجّ والعمرة كفرض الحجّ والعمرة في غير النية مثل ماذا؟ الكفارة مثلاً، فإنها تجب في الفرض والنفل بالوقت المفسد له، علمنا نحن أنّ الشخص إذا جامع في الحجّ أو في العمرة وهو مُحرِم هنا يكون قد أفسد حجّه أو أفسد عمرته، لكن تجب عليه أيضاً الكفارة؟ فالكفارة تجب في حجّ الفريضة وفي حجّ النافلة، تجب أيضاً في نافلة العمرة كما تجب أيضاً في العمرة الواجبة على من يقول بالوجوب، تمام، إذن هنا الكفارة في النفل كالكفارة في الفريضة إذن عندنا نفل الحجّ والعمرة تشابه تماماً مع فرض الحج والعمرة، ومن هاهنا حصل الافتراق والاختلاف بينه وبين الصلاة والصيام، فقالوا هناك نفل الصلاة والصيام لا يكون كفريضة الصلاة والصيام في الأشياء المذكورة كحال الحجّ، وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله أضاف أمراً آخر وهو أنّه إذا وجب المضي في فاسد الحجّ والعمرة فالمضي في صحيحه أولى، يعني هذا أمر لا تجده في الصلاة وفي الصيام، الصلاة والصيام إذا فسدت فسدت انتهى لا تحتاج أن تمضي فيهما، لكن الحجّ والعمرة إذا فسدتا وجب عليك أن تمضي فيهما، قال: فإذا وجب عليك أن تمضي في فاسدهما ففي صحيحهما أولى، أي نعم، وهذا لا تجده في الصيام والصلاة إذن قياس الصلاة والصيام على الحجّ قياس مع الفارق، هذا ما يريدون أن يصلوا إليه، وهكذا يكون الردّ عليهم فيما استدلوا به، إذن الصحيح ما ذكره المؤلف في هذا أنّه، لا يجب إتمامه ووجبت في النسك لأنه كفرضه نية وغيرها.
ثم قال رحمه الله: "والسبب وصف ظاهر منضبط مُعرف للحكم"، بدأ الآن بالأحكام الوضعية، قال: "والسبب وصف ظاهر منضبط مُعرف للحكم".
السبب لغة: الطريق إلى الشيء، أو الموصل إلى الشيء، من هاهنا سمي الحبل سبباً، وسميت الطريق سبباً.
واصطلاحاً عرّفه المؤلف بقوله: "وصف ظاهر منضبط مُعرّف للحكم"، هذا أول الأحكام الوضعية، الحكم الوضعي سميّ خطاب الوضع لأنّ الشارع وضع الخطاب بالأسباب والشروط والموانع، فيقولون في الخطاب الوضعي هو علامات وأدلة وأمارات تدلك على الشيء بخلاف الحكم التكليفي، لاحظ الأمر الآن الحكم التكليفي ماذا قلنا؟ هو طلب، أمّا الحكم الوضعي ليس طلباً ولكنّه علامة على الشيء، فهو خطاب الله تبارك وتعالى المتعلق بجعل الشيء سبباً لشيء أو شرطاً أو مانعاً، الآن عند زوال الشمس مثلاً، إذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر، طيب، وجوب صلاة الظهر حكم تكليفي، هذا الحكم التكليفي لا بد من وجود سبب يحدد لنا متى يجب علينا، لا بد من علامة على ذلك، فلذلك جعل لنا الشارع سبباً يدل على الوجوب ما هو هذا السبب؟ ما هي هذه العلامة؟ زوال الشمس، هذا معنى الحكم الوضعي، وخطاب الوضع ذكرنا فروقاً بينه وبين خطاب التكليف، فكل تكليف معه خطاب وضع، وليس كل خطاب وضع معه تكليف، الآن كل تكليف معه خطاب وضع، وجوب الصلاة، الآن هذا حكم تكليفي له أسباب؟ نعم، له شروط؟ نعم، له موانع؟ نعم، إذن هذا حكم تكليفي معه أحكام وضعية، وجوب الزكاة كذلك لها سبب ولها شرط ولها مانع، إذن الأحكام التكليفية معها أحكام وضعية، تمام طيب، الحكم الوضعي ممكن أن يتخلف عن الحكم التكليفي؟ نعم، أي مثلاً كقيم المتلفات التي يتلفها المجنون أو الصبي، أتلف المجنون أو الصبي شيئاً، هل يلزمه بدل هذا الشيء قيمته؟ نعم، طيب، هل يجب عليه هذا الشيء كوجوب شرعي (حكم تكليفي)؟ ما فيه، لا يوجد حكم تكليفي، هذا حكم وضعي، من الممكن أن يوجد الحكم الوضعي ولا يوجد الحكم التكليفي، لكن العكس لا، تمام، فأول هذه الأحكام الوضعية التي ذكرها المؤلف: السبب، عرّفنا السبب لغة، الآن اصطلاحاً، قال المؤلف رحمه الله: "وصف ظاهر منضبط مُعرّف للحكم"، بقوله "وصف": أخرج الذوات لأن المقصود بالوصف معنى، أيّ أنّه معنى من المعاني، فالسبب لا يكون ذاتاً ولكنّه يكون معنى من المعاني، كزوال الشمس مثلاً، طيب، "وصف ظاهر": أخرج بذلك الوصف الخفيّ، الوصف الظاهر الذي يطلع عليه الجميع، الوصف الخفي الذي لا يطلع عليه إلّا فلان وفلان، طيب، وبقوله: "منضبط": أخرج الوصف الذي لا ينضبط، فإنّه لا يتحقق وجوده حتى يترتب عليه الحكم، فالمقصود بالوصف المنضبط الذي لا يختلف باختلاف الأفراد والأحوال، لا يختلف باختلاف الأفراد والأزمنة والأمكنة لا، هو مستقر لا يؤثر فيه اختلاف الأفراد ولا الأزمنة ولا الأمكنة، طيب، مثال الوصف الظاهر المنضبط: زوال الشمس، وصف ظاهر مكشوف واضح ومنضبط لا يتأثر بتغير الأفراد ولا الزمن ولا المكان، طيب، مثال الوصف الذي لا يكون ظاهراً، يكون خفياً ويكون غير منضبط، خروج الحدث حال النوم، هذا وصف؟ وصف، ظاهر؟ ليس بظاهر، خفي وغير منضبط أيضاً، وكذلك حقيقة المشقة في السفر، هذا الوصف خفي وأيضاً غير منضبط، فيختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان وباختلاف الأمكنة، فهو وصف غير منضبط، طيب، النوم سبب للوضوء، هل هو وصف ظاهر منضبط؟ نعم وصف ظاهر ومنضبط ما فيه مشكلة، إذن يصلح أن يكون سبباً للوضوء، السفر سبب للإفطار لأن السفر وصف ظاهر منضبط أيضاً، وقول المؤلف: "مُعرّف للحكم"، أي علامة على الحكم، فإذا وُجد السبب دلّ على وجود الحكم، هذا التعريف الذي اختاره المؤلف للسبب، وكثير من الأصوليين يعرّفه بقوله: "هو ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم"، التعريف عند المناطقة له ثلاثة طرق:
· تعريف بالحقيقة.
· وتعريف بالرسم.
· وتعريف بالمرادف.
التعريف بالحقيقة: هو أن تذكر جزئيات الشيء، تذكر أوصاف الشيء التي يتركب منها هذا الشيء، تذكر جزئيات الشيء التي لا يمكن للشخص أن يتصور حقيقة الشيء إلّا بها، كقولك مثلاً: الإنسان حيوان ناطق، الآن ذكرت ما يتكرب منه ولا يتجزأ منه الإنسان، حيوان ناطق: أوصاف لا يمكن أن تتصور حقيقة الشيء حتى تكون فاهماً لها ومدركها ومتصورها، جيد، هذا التعريف بالحقيقة.
أما التعريف بالرسم: المقصود بالرسم العلامة، تذكر علامات فتعريف بالخاصة يعنون به صفة ليست هي من الصفات الذاتية يعنون به صفة عارضة، تلك العارضة التي تعرض وتزول، صفة عارضة، فهذه الصفة العارضة لا تكون ذاتية ولكن الصفة هذه صفة عرَضية يختص بها المعرَّف، هذا قيد مهم كتعريفك للإنسان بالضاحك أو الكاتب، عندما أقول لك في تعريف الإنسان: هو الضاحك، هل يمكن أن يلتبس معك بشيء آخر؟ لا، أو أقول لك الإنسان هو الكاتب، هذا تعريف بالخاصة يسمى تعريف بالرسم، الآن أنت لو لم تتصور مسألة الكتابة ولم تفهمها ولا علاقة لك بها نهائي، هل يمكن لك أن تتصور حقيقة الإنسان؟ نعم يمكن، إذن ليست هي من الأوصاف الذاتية، الضابط في مسألة التفريق بين الوصف الذاتي وغير الذاتي هذا فقط نذكره من أجل أنكم إذا اطلعتم على كلام أهل العلم تفهمونه، فهنا هذه الطريقة الثانية من طريقة التعريف.
الطريقة الثالثة وهي المشهورة عند الناس اليوم التعريف بذكر المرادف، تسأل شخص تقول له ما البُرّ؟ بسهولة تقول له: القمح، صح، لكن تذكر له مرادفاً أشهر، لا أن تذكر له شيء يزيد الأمر غموضاً كما يُقال: فسر الماء بعد الجهد بالماء، تذكر له شيئاً مشهوراً معروفاً بحيث أنك إذا قلت له هو كذا، خلاص عرفه، انفك الإشكال لكن ليس دائماً تجد للشيء مرادفاً مشهوراً تستطيع أن تعرّفه به، مع أنهم يقولون التعريف بالمرادف من أضعف التعاريف (المناطقة)، لكن حقيقةً إذا كان المرادف هذا معلوماً هذا تعريف واضح وجلي، فهنا الآن هذا التعريف الذي معنا، التعريف الأول الذي عرّفه المؤلف تعريف لبيان المفهوم، مفهوم السبب، التعريف الثاني الذي بين أيدينا هو تعريف بالخاصة، تعريف بالرسم وليس بالحقيقة، لكنّه أدق من التعريف الأول فهو: ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم، هذا السبب: السبب مؤثر في حال الوجود وفي حال العدم، يلزم من وجوده الوجود: إذا وجد النصاب في الزكاة وجبت الزكاة، وإذا وُجد زوال الشمس وجبت الصلاة، فيلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم: إذا لم تزل الشمس فلا وجوب للظهر، إذا لم يوجد النصاب في الزكاة فلا زكاة، واضح، كنا شرحناه في الدروس الماضية.
قال: "والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم".
الشرط في اللغة: هو العلامة.
وهذا تعريفه في الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، إذا الشخص لم يتوضأ، هل توجد الصلاة الشرعية؟ لا توجد الصلاة الشرعية، فيلزم إذن من عدم الطهارة عدم الصلاة، فما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، هل يلزم الشخص إذا تطهر أن يُصلي؟ لا يلزم أن يُصلي، ولا يلزم أيضاً العدم إذا وُجد أيضاً الوضوء لا يلزم أن تُعدم الصلاة، بل توجد، فبقوله: "ما يلزم من عدمه العدم": أخرج المانع الذي سيأتي، فلا يلزم من عدمه شيء، المانع في حال العدم لا يؤثر، لكنّ الشرط في حال العدم يُؤثر، هل أخرج السبب بهذا؟ لا، لماذا؟ لأن السبب أيضاً يلزم من عدمه العدم، مضبوط، إذن ما أخرج السبب، أخرج المانع، لذلك احتاجوا قيداً آخر حتى يُخرجوا السبب، فقالوا: "ولا يلزم من وجوده وجود"، أخرجوا ماذا؟ السبب، السبب: يلزم من وجوده وجود، فبقوله: ولا يلزم من وجوده وجود أخرج السبب، إذ يلزم من وجوده وجود، طيب، وأخرج المانع أيضاً بقوله: "لا يلزم من وجوده العدم"، المانع: يلزم من وجوده العدم، وهذا لا يلزم من وجوده العدم، إذن أخرج المانع بقوله: "ولا يلزم من وجوده العدم"، أخرج المانع أيضاً، فالمانع يخرج بقيدين، طيب، ومثلوا لذلك بالطهارة بالنسبة للصلاة فإنّ وجود الطهارة لا يلزم منه وجود الصلاة ولا عدمها، والشرط ثلاثة أقسام:
· الأول: الشرط الشرعي، وهو الذي عرّفناه.
· الثاني: الشرط اللغوي، أي يستفاد من اللغة، إن جاء زيد فأكرمه، إن: شرطية، فإذن إكرام زيد معلق على مجيئه، فمجيئه شرطٌ لإكرامه، هذا الشرط شرط لغوي.
· الثالث: الشرط العقلي: وهو ما لا يمكن المشروط في العقل دونه، ومثلّوا له بالحياة للعلم، لأنّه إذا انتفت الحياة انتفى العلم، فلا يمكن العلم أن يكون موجوداً بلا حياة، فالحياة شرطٌ للعلم، دلّ على ذلك، أُدرك بماذا؟ بالعقل، هذا شرط عقلي.
وأضاف بعضهم شرط عادي، أي شرط وضع بالعادة وعُرف بالعادة، كنصب السُلّم لصعود السطح، فالسلّم هنا نصبه شرطٌ لصعود السطح، هذا من حيث العادة.
والشرط الشرعي قسمان:
· شرط وجوب.
· وشرط صحة.
شرط الوجوب: كالزوال لصلاة الظهر، أي أنّ الصلاة لا تجب إلّا بوجوده، شرط وجوب، لا تجب الصلاة إلّا بالزوال، هذا نفسه السبب.
وشرط الصحة: كالوضوء للصلاة أي أنّ الصلاة لا تصح إلّا بالوضوء، صلاة الظهر لا تجب إلا بعد زوال الشمس، فهذا شرط وجوب، والصلاة لا تصح إلّا بالطهارة فهذا شرط صحة.
وضابط التفريق بينهما كالتفريق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، فشرط الوجوب من خطاب الوضع وشرط الصحة من خطاب التكليف.
نقف إلى هنا والمانع نكمله في الدرس القادم إن شاء الله.