القائد الدميث شرح الباعث الحثيث
الجزء السابع
قدمنا في الدرس الماضي
تعريف الحديث الحسن وذكرنا أن الحسن قسمان :الحسن لذاته والحسن لغيره ، وذكرنا أن
الحسن لذاته هو ما اتصل إسناده بنقل العدل الذي خف ضبطه عن المقبول إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معللا .والحسن لغيره هو الحديث الضعيف الذي فيه ضعف خفيف وجاء
ما يشهد له ويتابعه فيتقوى به إلى درجة الحديث الحسن لغيره .وذكرنا أن جمهور أهل
العلم على الاحتجاج بالحديث الحسن لغيره ونقل الحافظ وغيره الاتفاق على الإحتجاج بالحديث الحسن لذاته .قال
المؤلف رحمه الله :(
قال الشيخ أبو عمرو ) أي ابن الصلاح (لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة كحديث " الأذنان من الرأس " : أن يكون حسناً، لأن الضعف يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعاً أو متبوعاً، كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول بالمتابعة، كما إذا كان راويه سيء الحفظ، أو روي الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة. والله أعلم.يريد ابن الصلاح - رحمه الله - أن ينبه في هذه الفقرة على أن الحديث الضعيف
ليس كله يرتقي إلى درجة الحسن ؛ بل من منه ما ينجبر بالمتابعات والشواهد ويرتقي إلى الحسن ويصبح حسناً لغيره ، ومن الضعيف ما لا يرتقي إلى درجة الحسن ويبقى ضعيفاً مهما وُجد له من شواهد ومتابعات ، فالضعيف ضعفاً خفيفاً ينجبر ، والضعف الخفيف هذا يُعرف بكلام علماء الجرح والتعديل في الراوي ؛ فإذا قالوا في الراوي مثلاً سيئ الحفظ ، أو مدلس أو كان الراوي مجهول الحال أو جاء الحديث مرسلاً ؛ فإن هذا النوع من أنواع الضعف يعتبر ضعفاً خفيفاً يتقوى إن وجدنا ما يشهد له أو يتابعه .فالذي
أراده ابن الصلاح في هذه الفقرة أن يبين لنا أن الحديث الضعيف منه ما ينجبر ومنه ما لا ينجبر ، ومثَّل لما لا ينجبر مع كثرة طرقه بحديث الأذنين من الرأس ."
الأذنان من الرأس " حديث اختلف أهل العلم فيه فبعضهم ذهب إلى ما ذهب إليه ابن الصلاح ؛ وهو أن طرقه كلها واهية ضعيفة جداً لا يَجبر بعضها بعضا ، والبعض ذهب إلى أن بعض طرقه ضعْفه يسير ويتقوى بالبعض الآخر فقوّوا الحديث من هذا الباب ، بل ذهب البعض إلى تحسين بعض طرقه بذاتها .فالخلاف فيه قوي ، وشيخنا الوادعي - رحمه الله - كان يقول في الحديث إنه يُحسَّن أو
يُصحَّح ، وقال الحافظ ابن حجر : ينبغي أن يمثَّل في هذا المقام بحديث " مَنْ حفظ على أمتي أربعين حديثاً كُتب فقيهاً " . فقد نقل النووي اتفاق الحُفّاظ على ضعفه مع كثرة طرقه ،فلا يعني أن له طرقا كثيرة أنه يحسّن ويصبح حسناً لغيره ، لا ، لأن طرقه واهية لذلك لا يتقوى بعضها ببعض ، فإذاً ليس كل حديث نجد له أكثر من طريق يصبح حسناً ، لا ، فيوجد أحاديث ضعيفة ضعفها يسير فهذه تتقوى إن وجدنا لها أسانيد أخرى ضعفها يسير ، ويوجد أحاديث ضعفها شديد ولا يوجد لها أسانيد ضعفها خفيف يتقوى بعضها ببعض فهذه وإن كثرت طرقها لا ترتقي إلى درجة الحسن لغيره ، يعني الخلاصة ينبغي أن تفرِّق بين الضعيف الذي ينجبر والضعيف الذي لا ينجبر .(
قال وكتاب الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن ) أي أن كتاب الترمذي فيه الكثير من الأحاديث الحسان ، وهو يكثر من الحكم على الأحاديث بذلك ( وهو الذي نوّه بذكره) أي : رفع ذكر الحديث الحسن وشهره ، ( ويوجد في كلام غيره من مشايخه كأحمد والبخاري وكذا من بعده كالدارقطني ) أي ويوجد إطلاق الحسن على الحديث في كلام غير الترمذي أي الترمذي لم يتفرد بإطلاق كلمة الحسن على الأحاديث بل سُبق إلى ذلك ووُجد في كلام غيره من أهل العلم من مشايخه ومشايخ مشايخه فأحمد - رحمه الله - لم يكن من مشايخ الترمذي بل هو شيخ شيوخ الترمذي أما البخاري فهو شيخه ، وكذا مَن بعد الترمذي كالدارقطني وجد في كلامهم استعمال الحسن لكن هل أراد مَن هم قبل الترمذي بالحسن ؛ الحسن الاصطلاحي أم أرادوا معنى اللغوي؟اختلف أهل العلم في ذلك ؛ فبعضهم قال : أرادوا المعنى الاصطلاحي
في بعض الأحيان، والبعض الآخر قال : لم يرد مَن قبل الترمذي بالحسن المعنى الاصطلاحي ، وأول من استعمل الحسن للمعنى الإصطلاحي هو الترمذي ومَن تمعّن ونظر في كلام السلف لم يجد كلاماً واضحاً لهم في إرادة المعنى الإصطلاحي بإطلاقهم لفظ الحسن ، لكن كلمات محتمِلة تحتمل المعنى الاصطلاحي وتحتمل المعنى اللغوي لذلك حصل الخلاف بين أهل العلم في هذا الأمر ، ولكن كما ذكرنا السلف الذين لم يطلقوا كلمة الحسن على المعنى الاصطلاحي كانوا يُدخلون الحسن لذاته في الصحيح ، أما الحسن لغيره فكانوا يدخلونه في الضعيف المعمول به .قال :
(
ومن مظانه سنن أبي داود ، رُوينا عنه أنه قال) - أي أبو داود رحمه الله - : ( ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ) أما الصحيح فمعروف ، وما يشبهه ويقاربه الحسن . قال أبو داود رحمه الله :( وما كان فيه وهن شديد بيّنته
) الوهن : الضعف ، هاهنا يبين لنا أبو داود السجستاني رحمه الله صاحب سنن أبي داود أن الحديث الذي فيه ضعف شديد يبينه لا يسكت عنه ، إذاً ما سكت عنه أبو داود فليس بشديد الضعف ، هذا ما يُؤخذ من كلام أبي داود ، أي يمكن أن يكون ضعيفاً ويمكن أن يكون حسناً ويمكن أن يكون صحيحاً ( وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح) قال شيخنا مقبل الوادعي - رحمه الله وبارك في عمله - : الذي لم يذكر فيه شيئاً - أي أبو داود - منه ما هو في صحيح البخاري ومنه ما هو صالح للحُجية ليس في صحيح البخاري ولكنه صحيح أو حسن ومنه ما هو صالح للشواهد والمتابعات .قال الشيخ
رحمه الله : كلامه هذا يُطبّق في كتابه فإذا لم يقل في الحديث شيئاً نعرف أنه صالح أو صحيح ،أي صالح في الشواهد والمتابعات أو صحيح .قال : ( وبعضها أصح من بعض ) أي أن
الأحاديث التي في كتاب السنن تتفاوت فبعضها أقوى من بعض .(
قال :وروي عنه ) أي عن أبي داود ( أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه ) أي أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه من الأحاديث ولا يعني ذلك أنه صحيح ، ولكنه أجود من غيره ، هذا الذي يريده بكلمة : أصح ما عَرف فيه أي أنه أجود من غيره في هذا الباب . هذا معنى كلام أبي داود رحمه الله .(
قلتُ) ابن كثير ( ويُروى عنه أنه قال وما سكتُّ عنه فهو حسن ) لكن هذه اللفظة : " فهو حسن " بدل قوله فهو صالح ، لا تصح ، لأن المحفوظ عنه أنه قال : فهو صالح ، وابن كثير رواها بصيغة التمريض التي تُشعر بضعفها وقد أشار الحافظ في النكت إلى عدم ثبوتها ، أشار إشارة إلى هذا فالصحيح المحفوظ عنه أنه قال : " وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح " ، فيدخل في ذلك ما كان صالحاً للاحتجاج أو صالحاً للاستشهاد والمتابعة .ثم ذكر حديثاً وذكر أنه في بعض
الروايات تكلم على الحديث بكلام ذُكر بعضها في رواية ثانية وذكر أن أبا داود ضعَّف حديثاً خارج السنن وسكت عنه فيها ، فثبت إذاً عن أبي داود أنه ضعف بعض الأحاديث التي سكت عنها في سنن أبي داود إذاً فلا يصح أن نحمل كل الأحاديث التي سكت عنها أبو داود في سننه على أنها حسنة .(
ولأبي عبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل كتاب مفيد) مطبوع (ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه فقوله : وما سكت عنه فهو حسن ، ما سكت عليه في سننه فقط أو مطلقاً ؟ هذا مما ينبغي التنبيه عليه والتيقظ له ) يريد ابن كثير أن يذكر هنا أن لأبي داود كلاما كثيرا في الأحاديث وسكت عن الكثير منها سواء في السنن أو في غيرها من المواضع ، فهل كلام ابن الصلاح ؛ بأن الحديث الذي سكت عنه أبو داود يعتبر حسناً ، هل يريد بذلك أحاديث السنن أم أحاديث السنن وغيرها ؟ هذا ما يريد أن يذكره ابن كثير - رحمه الله - وقد اعترض أهل العلم على هذا الاعتراض ، فقالوا كلام ابن الصلاح واضح في أنه يتكلم عن السنن لا يتكلم عن غيرها والله أعلم.وعلى كل
حال خلاصة هذا الموضوع هو ما ذكرناه أن كل حديث ينظر فيه طالب العلم ويحكم عليه بما يستحق .(
قال : وما يذكره البغوي ) البغوي الحسين بن مسعود الفراء أبو محمد صاحب كتاب مصابيح السنة وكتاب شرح السنة (في كتابه المصابيح من أن الصحيح ما أخرجاه أو أحدهما وأن الحسن ما رواه أبو داود والترمذي وأشباههما) في كتابه المصابيح اتبع اصطلاحاً خاصاً به ؛ فبدل أن يُخرِّج الحديث يذكر الحديث ثم يقول صحيح ويذكر الحديث ثم يقول حسن فيُطلق الصحيح على ما أخرجه البخاري أو مسلم أو ما أخرجه البخاري ومسلم معاً فيسميه صحيحاً ويطلق الحسن على ما رواه أبو داود والترمذي وأشباههما فيقول فيه : حديث حسن فالذي لا يعرف اصطلاح البغوي يظن أن الصحيح هو بمعنى الصحيح عند أهل الحديث والحسن هو الحسن عند أهل الحديث بالاصطلاح المعروف (فهو اصطلاح خاص لا يُعرف إلا له وقد أنكر عليه النووي ذلك لما في بعضها من الأحاديث المنكرة ) ، قالوا : لكن هنا البغوي اصطلح اصطلاحاً خاصاً أي أن كلمة الصحيح والحسن عند البغوي كلمة تخريج وليست كلمة حكم على الحديث ، لكن الكلمة عند أهل الحديث هي حكم على الحديث فعندما تقول صحيح أي معمول به ، حسن أي معمول به ، ضعيف أي غير معمول به غير مقبول أما عندما تقول صحيح عند البغوي فمعناها أخرجه البخاري أو أخرجه البخاري ومسلم أو أخرجه مسلم وعندما تقول حسن أي أخرجه أبو داود أو أخرجه أبو داود والترمذي وهكذا إذاً فهي كلمة تخريج وليست كلمة حكم على الحديث عند البغوي في المصابيح وهذا اصطلاح خاص بالبغوي ؛ ولذلك انتقده بعض أهل العلم عليه فقالوا بعض الأحاديث التي يذكر فيها هذا هي منكرة فكيف يقول فيها حسن ؟ قالوا لهم هذا اصطلاح له وأراد به التخريج ، ما أراد به الحكم على الحديث ولا مُشاحة في الإصطلاح إذا بيّن الشخص اصطلاحه وبين مراده في أول كتابه فلا يُنتقد ولا يُعترض عليه ، ويقال لا مشاحة في الاصطلاح بشرط أن لا يبني على اصطلاحه أحكاماً شرعية مخالفة للصواب . والله أعلم .