شرح الدرر البهية -2
قال المؤلف – رحمه الله - : " باب " .
الباب :
لغة : هو الطريق إلى الشيء والموصل إليه ، وباب المسجد وباب الدار : ما يدخل منه إليه .
وفي الاصطلاح : اسم لجملة مختصة من الكتاب ، ويكون بين مسائل الباب ارتباط أخفى من ارتباطها بمسائل الطهارة .
وهذا الباب الذي سيبدأ به المؤلف ؛ هو باب حكم المياه .
قال – رحمه الله - : " هذا الباب قد اشتمل على مسائل " .
المسائل: جمع مسألة من السؤال ، وهي المطلوب الذي يحتاج إثباته إلى برهان ودليل .
قال – رحمه الله - : " الأولى "
أي المسألة الأولى من مسائل هذا الباب .
قال : " الماء طاهر مطهر ".
المراد بالماء هنا الماء المطلق ، والماء المطلق: هو ما كفى في تعريفه اسم الماء ، أي الذي لم يضف إلى شيء، فلم تقل ماء ورد مثلاً ، فهذا يسمى ماء مطلقاً من غبر إضافة شيء آخر إليه ؛ كالماء النازل من السماء أو النابع من الأرض ، أو مياه الأنهار والبحار .
و الماء طاهر: أي ليس بنجس.
ومطهر: أي مجزئ في الطهارة الشرعية من رفع حدث وإزالة نجس وغيرهما كالأغسال المندوبة ، فلك أن تتطهر به وتتوضأ به ، كما قال عليه السلام للمرأة حين سألته عن ثوبها الذي أصابه دم حيض ؛ قال : " واقرصيه بالماء " أي نظفيه بالماء .
وكقوله للصحابة : " أهريقوا عليه ذنوباً من ماء " حين بال الأعرابي في المسجد .
وأصل ذلك قول تبارك وتعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً }
قال ثعلب – وهو أحد أئمة اللغة - : الطَّهور : هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره ، وكذا قال الأزهري – رحمه الله – صاحب كتاب " تهذيب اللغة ".
وقال تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } ، وقال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وقال صلى الله عليه و سلم : " الماء طَهور لا ينجسه شيء " ، وقد جاءت أحاديث كثيرة أمر فيها النبي صلى الله عليه و سلم بتطهير النجاسات بالماء ، وستأتي معنا إن شاء الله .
ونقل ابن رشد الإجماع على أن الماء طاهر مطهر .
وقال المؤلف – رحمه الله - : " لا يخرجه عن الوصفين " .
أي لا يَخرُج الماء عن كونه طاهرا في نفسه – وهذا الوصف الأول – ومطهرا لغير – وهذا الوصف الثاني - .
قال : " إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات " .
أي أن الماء المطلق يبقى طاهراً مطهراً إلى أن تخالطه نجاسة فتغير رائحته أو لونه أو طعمه ؛ فعندئذ لا يبقى طاهراً ولا مطهّراً ؛ بل يصير نجساً ، لا يجزئ في رفع الحدث وإزالة النجاسة ، وليس طاهراً أيضاً .
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب .
فعندنا أصل وهو أن "الماء طاهر مطهر" ، وعرفنا دليل هذا الأصل ؛ وهو عموم الآيات والأحاديث التي تقدمت ، فلا يخرج الماء عن كونه طاهراً ومطهراً إلا بدليل .
وذكر المؤلف أن الماء لا يخرج عن كونه طاهراً ومطهراً إلا إن خالطته نجاسة غيّرت أحد أوصافه الثلاثة ؛ لونه أو ريحه أو طعمه ، فيصير نجساً لا يطهر ؛ ودليل ذلك الإجماع .
قال ابن المنذر في كتابه " الإجماع " ( ص 35 ) : وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيّر للماء طعماً أو لوناً أو ريحاً أنه نجس مادام كذلك .
والأدلة الشريعة : الكتاب، والسنة، والإجماع، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فالإجماع يخصص عموم قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: " الماء طهور لا ينجسه شيء "، ويخصص عموم الأدلة التي دلت على أن الماء طاهر مطهر .
وورد في ذلك حديث عند ابن ماجة وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " ولكنه حديث ضعيف ، قال النووي : " واتفقوا على ضعفه " ، والضعيف منه الاستثناء ؛ أي قوله : " إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " وأما قوله : " الماء طهور لا ينجسه شيء " فقد صح من حديث أبي سعيد الخدري كما تقدم .
ثم قال – رحمه الله - : " وعن الثاني : ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة " .
قوله " عن الثاني " أي عن الوصف الثاني ، وهو كونه مطهراً ، فيريد أن الماء يبقى مطهراً لغيره إلا إذا خالطه شيء طاهرٌ فأخرجه عن كونه ماء مطلقاً ؛ أي غير إطلاقه، فأصبح له اسما آخر وهذه المسألة الثالثة .
مثال ذلك : إذا أخذنا كأساً من الماء ووضعنا فيه كيساً من الشاي ؛ فإن الشاي طاهرٌ نزل في الماء فغيّر لون الكأس حتى تغيرت حقيقته ، فلم يعد ماء مطلقاً ، بل تغيّرت حقيقته وصار شاياً ، فهذا طاهر ليس بنجس ، ولكنه لا يطهر ، لأن الذي يطهر هو الماء المطلق ، فهو ما ثبت به الدليل ، وأما غيره من المائعات ؛ فلم يثبت فيه شيء فليست من المطهرات .
قال ابن المنذر : " وأجمعوا على أنه لا يجوز الاغتسال ولا الوضوء بشيء من هذه الأشربة سوى النبيذ " أي أن النبيذ قد حصل خلاف في جواز الوضوء به ؛ والصحيح أنه لا يجزئ في ذلك لعدم وجود الدليل الصحيح .
ولكن إذا كان التغير بطاهر تغيّراً يسيراً ، فإن الماء في هذه الحالة يبقى طاهراً مطهراً ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه اغتسل في قصعة فيها أثر عجين .
وكذلك الماء المتغير بما لا ينفك عنه غالباً ؛ كالطحالب والتراب ، فإنه يبقى مطهراً بالاتفاق .
ثم قال – رحمه الله – " ولا فرق بين قليل أو كثير " .
وهذه المسألة الرابعة ؛ أي أن الماء القليل والكثير له نفس الأحكام المتقدمة ، لا يختلف ، وفي هذا رد لقول الذين فرّقوا ؛ إذ إن الأدلة ليست معهم في ذلك كما سيأتي .
فقالوا في تفريقهم : إذا وقعت النجاسة في الماء القليل نجسته سواء غيرت أوصافه أم لا ، وأما في الماء الكثير فلا تنجسه حتى تغيّر أحد أوصافه . ثم اختلفوا في ضابط التفريق بين القليل والكثير ، فقال بعضهم بالتفريق ما بين القلتين وما دونهما .
قال المؤلف – رحمه الله - : " وما فوق القلتين وما دونهما " .
أي لا فرق بين الماء القليل الذي ضابطه أن يكون أقل من قلتين ، وما فوقهما
والتفريق بين ما فوق القلتين وما دونهما ؛ تحديد من بعض أهل العلم، ومنهم الشافعية، فالبعض قد فرّق بين القليل والكثير واختلفوا في الحد والضابط.
فالشافعية مثلاً وغيرهم فرّقوا بالقلتين، فقالوا: ما كان أكثر من قلتين، إن سقطت فيه النجاسة، ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة، يبقى طاهراً، أما إذا كان دون القلتين، فيصبح نجساً بمجرد أن تسقط النجاسة فيه، واختلفوا في القلتين هاتين، كم مقدارهما .
والقلتان : مثنى قلّة ، والقلّة إناء للعرب كالجرّة الكبيرة ، وقد اختلفوا في تقديرها اختلافاً كثيراً
فبعضهم يقول: مائتي لتر. وبعضهم: مائتين وخمسين، وخمسة وسبعين، والبعض: ثلاثمائة، على خلاف شديد، فاختلفوا في أصل قدر القلتين واضطربوا فيه اضطراباً كثيراً، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يضع ضابطاً بمثل هذه المقادير التي يختلف فيها، ولا يعرف قدرها.
واعتمدوا في هذا على حديث " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء " ، لكن هذا الحديث في صحته خلاف، ونزاع بين أهل العلم، والصحيح هو ما رجّحه الإمام المزّي، وشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهما الله – أنه حديث ضعيف فيه اضطراب، والأقرب إلى الصواب أن يكون موقوفاً على ابن عمر – رضي الله عنهما – أي من كلامه. والله أعلم .
وهذا أقوى ما يحتج به من فرق بين القليل والكثير . وكما ذكرنا ؛ فالراجح أنه لا فرق بين القليل والكثير .
ثم قال – رحمه الله - : " ومتحرك وساكن " .
والماء الساكن كماء المستنقعات ، والمتحرك كماء الأنهار
أي لا فرق بين الماء المتحرك والساكن ، وهذه المسألة الخامسة من مسائل الباب .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز التطهر أو التطهير بالماء الراكد ؛ واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : " لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " .
والرد عليه في نفس الحديث ؛ فقد سأل السامعون أبا هريرة ؛ فقالوا : يا أبا هريرة كيف يفعل ؟ قال : يتناوله تناولاًَ .
فأجاز التطهر به ، و"راوي الحديث أدرى بمرويه" ، ولو لم يكن مطهراً لما أجاز التناول منه .
وأجاب بعض أهل العلم الذين يقولون إن الماء الساكن مطهر ؛ بأن علة النهي عن الاغتسال فيه من الجنابة كونه يصير مستخبثاً بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه ، فالنهي لسد الذريعة لا لشيء آخر ، ويدل على ذلك قول أبي هريرة السابق.
ثم قال المؤلف – رحمه الله - : " ومستعمل وغير مستعمل " .
هذه المسألة السادسة .
اختلف أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات ، هل يخرج بذلك عن كونه مطهراً ؟
فلو أنك توضأت وجمعت الماء الساقط من وضوئك أو غسلك ، فهل يجوز لك أن تتوضأ بهذا الماء أم لا ؟ وهو ما يسمى عند العلماء بالماء المستعمل .
اختلف أهل العلم في ذلك ؛ فالبعض قال: هو طاهر ومطهر . والبعض قال: هو نجس أصلاً. والبعض قال: هو طاهر، لكنه غير مطهر. وكل احتج بأدلة ؛ والصحيح أنه طاهر مطهر .
والدليل على أنه طاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، ولو كان نجساً لما قربوه .
وقد ثبت أنه عليه السلام صبّ على جابر من وضوئه ، وثبت أن أحد الصحابة شرب من وضوء النبي صلى الله عليه و سلم ، وبوّب البخاري باباً في استعمال فضل الوضوء ، وساق آثاراً في ذلك .
وأما كونه مطهراً ؛ فإن الماء المستعمل ماء مطلق داخل في عموم الأدلة المتقدّمة التي تدل على أن الماء المطلق طاهر مطهر ولا يجوز إخراجه منها إلا بدليل صحيح ؛ ولا يوجد .
وخلاصة هذا البحث :
أن الماء المطلق طاهر مطهر ، والماء إما أن يخالطه شيء طاهر أو شيء نجس
فإن خالطه طاهر فينظر إن أخرجه عن اسم الماء المطلق ؛ فهو طاهر غير مطهر ، وإن لم يخرجه فهو طاهر مطهر .
ومخالطة الشيء الطاهر اليسير له لا تؤثر فيه كمخالطة أثر العجين في إناء للماء الموضوع فيه ، فقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه توضأ من جفنة فيها أثر عجين.
وكذلك مخالطة ما لا يمكن الاحتراز منه غالباً كمخالطة الطحالب أو ورق الشجر، أو التراب وغيرها من الأشياء التي تختلط بالماء .
وأما الماء الذي خالطته نجاسة ؛ فإن غيّرت أحد أوصافه الثلاثة ؛ فهو نجس لا يصح التطهر ولا التطهير به .
وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة فهو طاهر مطهر ولا فرق بين القليل والكثير على الصحيح .
ومن أقوى المذاهب الفقهية في باب المياه مذهب الإمام مالك ، حتى قال الغزالي أحد أئمة المذهب الشافعي : وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك .
فإنه كان من أقوى المذاهب في المياه ، وكذلك البيوع.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين.