الدرس السابع
[المجلس السابع]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فهذا المجلس السابع من مجالس شرح الدرر البهية ونبدأ إن شاء الله بـِ باب الغسل
قال المؤلف رحمه الله: باب الغسل
الغَسل جريان الماء على العضو ، وأما الغُسل اسمٌ للاغتسال، والاغتسال اصطلاحاً هو إفاضة الماء على جميع البدن مع النية.
مسألة الدلك حصل فيها خلاف بين أهل العلم سيأتي الكلام فيه، بعض أهل العلم أضاف إلى التعريف مسألة الدلك، لكن الصحيح أن الدلك ليس شرطاً في الغسل كما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله:(( يجب:)) أي الغسل ،((بخروج المني بشهوةٍ ولو بتفكرٍ))
بدأ المؤلف رحمه الله بذكر موجبات الغسل أي الأشياء التي إن حصلت ووقعت أوجبت عليك أن تغتسل، هذه تسمى موجبات الغسل، أول شيء ذكره المؤلف رحمه الله هو نزول المني بشهوة، ويضيف بعض أهل العلم بشهوةٍ وبتدفقٍ، كما هو معلوم المني ماءٌ غليظٌ دافق يخرج عند اشتداد الشهوة وتمامها، ويكون منه الولد، أظنه بهذا الوصف قد عُلم، ما بقي فيه خفاء ومني الرجل أبيض ومني المرأة أصفر كما جاء وصفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خروج المني الدافق بشهوة يوجب الغسل سواء كان خارجاً من الرجل أو خارجاً من المرأة، وفي يقظة أو في منام، يعني إن خرج المني في اليقظة أو خرج في المنام أوجب الغسل، وهذا قول عامة العلماء، قال الترمذي رحمه الله: ولا نعلم فيه خلافاً. وقال - صلى الله عليه وسلم - :" الماء من الماء" أخرجه مسلم في صحيحه، أي الاغتسال من الإنزال، الاغتسال بالماء من إنزال الماء الذي هو المني ، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن أم سُليم قالت:" يا رسول الله : إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟، قال: نعم، إذا رأت الماء" متفق عليه، فقيَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يجب عليها أن تغتسل إذا رأت الماء، إذاً نزول الماء يوجب الغسل.
ثم قال رحمه الله:(( وبالتقاء الختانين))أي ويجب الغسل بالتقاء الختانين، الختان موضع القطع من فرج الذكر والأنثى، موضع القطع: عندما يُقص، القطعة التي تقص من ذكر الرجل أو فرج المرأة هذه تسمى ختاناً، والمراد من الحديث الوارد بذكر الختان فيه تغييب الذكر في فرج المرأة وهذا يوجب الغسل لقول الله تبارك وتعالى { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } [ المائدة/6]، الجنابة هي الجماع في كلام العرب، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل " أخرجه مسلم، وفي الصحيحين "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهَدها فقد وجب الغسل"، الشعب الأربعة اختلف فيها العلماء، قيل: اليدان والقدمان وقيل: القدمان والفخذان، وقيل: غير ذلك، المهم إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، الإجهاد لا يكون إلا عند الإدخال، فليس المقصود من المس الوارد في بعض الروايات التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - :"إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل" ، ليس المراد من المس مجرد اللمس الخارجي، بل المراد تغييب الذكر في الفرج لأن ختان المرأة في أعلى الفرج ولا يمسه الذكر في الجماع، قال النووي رحمه الله: وقد أجمع العلماء على أنه لو وضع ذكره على ختانها ولم يولجه (أي لم يدخله) لم يجب الغسل لا عليه ولا عليها.
إذاً المساس فقط من دون الإدخال لا غسل فيه بالاتفاق، متى يجب الغسل؟ إذا غيَّب الرجل رأس الذكر في فرج المرأة، عندئذ يجب الغسل، فالمراد بالمماسَّة المحاذاة، قال ابن قدامة في المغني: ولو مس الختان الختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق.
فهذان إمامان ينقلان الاتفاق على أن مجرد المس الخارجي لا يوجب الغسل.
ثم قال رحمه الله:((وبانقطاع الحيض. والنفاس))أي يجب الغسل أيضاً بانقاع الحيض والنفاس، أي بانتهائه (بانتهاء الحيض وبانتهاء النفاس) الحيض لغة هو السيلان وأما في الشرع فهو دم جِبِلَّة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة (يعني في حالة الصحة) من غير سبب في أوقات معلومة.
هذا التعريف أدق التعاريف التي وقفتُ عليها للحيض، والنفاس دمٌ يخرج من المرأة عند الولادة، ودليل وجوب الغسل بانقطاع الحيض وانقطاع النفاس قول الله تبارك وتعالى { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } أي النساء {حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} حتى ينقطع الحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإذا اغتسلن { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} فاتوهن من المكان الذي أمركم الله أن تأتوهنَّ منه ، فقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} دليل على أن الغسل واجب قبل الجماع، ولقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش وهي مستحاضة :" دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" متفق عليه، فقال لها ماذا؟ "ثم اغتسلي وصلي" فأمرها بالغسل، وأما النفاس فهو كالحيض بإجماع العلماء، نقل ابن المنذر رحمه الله الإجماع أن النفاس كالحيض لا فرق بينهما، وعلِمنا ما هو النفاس وما هو الحيض ، وقال ابن المنذر رحمه الله في الإجماع: وأجمعوا على أن على النفساء الاغتسال إذا طهرت.
هذا محل إجماع منتهي الكلام فيه.
قال المؤلف رحمه الله:(( وبالاحتلام مع وجود البلل)) أي ويجب الغسل بالاحتلام مع وجود البلل، إذاً لا بد من وجود البلل، من معاني الاحتلام في اللغة رؤيا المباشرة في المنام (مباشرة المرأة)، ويطلق أيضاً على الإدراك وعلى البلوغ، أما في الاصطلاح فهو اسم لما يراه النائم من المباشرة فيحدث معه إنزال المني غالباً وليس دائماً، فالاحتلام يوجب الغسل إذا حصل إنزال لكن شرط إيجابه للغسل هو رؤية الماء بدليل حديث أم سلمة المتقدم، عندما سألت أم سُليم فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - :"نعم، إذا رأت الماء" فعلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الغسل برؤية الماء.
قال المؤلف رحمه الله:((وبالموت)) أي يجب الغسل أيضاً بالموت، يعني يجب على الميت يغتسل؟ لا طبعاً، يجب على من حضر الميت أن يغسله، وتغسيل الميت واجب وجوب كفائي، ووجوب تغسيل الميت على المسلمين محل إجماع وسيأتي تفصيل الكلام في هذا الموضوع في باب الجنائز إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله:((وبالإسلام)) أي ويجب الغسل بدخول الكافر في الإسلام، الكافر إذا دخل في الإسلام فيجب عليه أن يغتسل بعد أن يتشهد الشهادتين ويدخل في الإسلام يجب عليه أن يغتسل، دليل ذلك حديث قيس ابن عاصم قال:" أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أريد الإسلام، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر" أخرجه أبو داود وغيره وهو صحيح، والعمدة عليه في إثبات وجوب الغسل على من دخل في الإسلام.
قال المؤلف رحمه الله: فصلٌ
((والغسل الواجب هو: أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه، مع المضمضة والاستنشاق)) انتهى المؤلف رحمه الله من موجبات الغسل، إذاً الغسل عند المؤلف لا يجب إلا بما ذُكر فقط، والأمر كما قال رحمه الله، وسيأتي في آخر مبحث الغسل ذكر الأغسال المستحبة . هنا الآن يريد أن يبين ما هو الواجب في الغسل، قال: أن يفيض الماء على جميع بدنه، إفاضة الماء على جميع البدن أي صب الماء على جميع الجسم، قال: أو ينغمس فيه مع المضمضة والاستنشاق، أو ينغمس في الماء كأن يكون مثلاً عند البحر ينغمس ينوي الغسل ويغطس في البحر ثم يخرج، يكون قد حصل الغسل مع وجود النية، فسواء انغمس أو صب على نفسه يحصل الغسل . المؤلف رحمه الله أضاف : مع المضمضة والاستنشاق، إشارة منه إلى أنه يرى وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، المسألة محل خلاف وجمهور علماء الإسلام على خلاف ما ذكر المؤلف، والحق إن شاء الله مع جمهور العلماء لا مع المؤلف رحمه الله، فالصحيح أن المضمضة والاستنشاق ليستا واجبتين لا في الوضوء ولا في الغسل، أما في الوضوء فقد تقدم الكلام في ذلك، وأما في الغسل فقد ورد في حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أم سلمة بإفاضة الماء على نفسها من غير أن يذكر لها المضمضة والاستنشاق، فيدل ذلك على عدم الوجوب، وكذلك جاء في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه ثم يفيض على سائر جسده، هذا عندما ذكر غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معلماً أحد من سأله عن ذلك، قال له : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه ثم يفيض على سائر جسده، إذاً هذان الحديثان:حديث أم سلمة وحديث جابر يدلان على أن المضمضة والاستنشاق ليستا من واجبات الغسل، حديث أم سلمة في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:"إنما يكفيكِ أن تَحْثي على رأسك الماء ثلاث حثيات ثم تفيضي عليكِ الماء فإذا أنتِ قد طهرتِ"، فما ذكر لها لا مضمضة ولا استنشاق .
قال المؤلف رحمه الله:((والدَّلْك لمِا يمكن دلكه)) أي أنه هذا من واجبات الغسل، دلك ما يمكن دلكه من الجسم مع إفاضة الماء، اختلف أهل العلم في دلك ما يمكن دلكه من الجسم، هل هو واجب أم تكفي الإفاضة؟ أي يكفي صب الماء ووصول الماء إلى جميع أجزاء الجسم، خلاف بين أهل العلم والراجح أن الدلك ليس شرطاً في الغسل، دليل ذلك: سمعتم حديث أم سلمة وسمعتم حديث جابر، هل سمعتم فيهما دلكاً؟ ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ذُكر عنه إلا الإفاضة، والإفاضة هي الصب، فإذا حصل الصب فقد حصل الغسل، والدلك ليس شرطاً فيها.
وأكمل الغسل هو ما ورد في حديث عائشة وفي حديث ميمونة وهما في الصحيحين، قالت عائشة رضي الله عنها:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ،ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره (حتى يصل الماء إلى جلدة الرأس) ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه ثم يفيض على جلده كله (يفيض الماء)" ، وحديث ميمونة قالت:"وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماءً للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره ثم مسح يده بالأرض ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم أفاض على جسده ثم تحول من مكانه فغسل قدميه "، في حديث ميمونة هذا كما يفعل في الوضوء بداية ثم بعد ذلك يفيض الماء على رأسه وعلى جسمه، لكن حديث ميمونة ها هنا فيه أنه أخَّر غسل القدمين إلى آخر الغسل، والحديث الذي ذكرته عائشة والذي ذكره غير عائشة أيضاً عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا فيه هذا الانتقال، فالظاهر أن هذا التأخير(تأخير غسل القدمين عن أعضاء الوضوء) أنه يصح هكذا ويصح هكذا ، هذا من السنة وهذا من السنة، فعل هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة وفعل الآخر تارة، ومن الجائز أن يقال: بأنه على حساب المكان الذي يغتسل فيه الشخص، ربما يكون هذا السبب قولها: ثم تحول من مكانه، فيه إشارة لهذا المعنى وهو أن المكان إذا كان فيه طين أو شيء من هذا أو فيه شيء يُعكِّر نظافة القدمين في حال الغسل، بعد أن ينتهي من غسله يتحول من المكان ويغسل قدميه ويخرج، ربما هذا المعنى يكون وارداً في فهم حديث ميمونة والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله:(( ولا يكون شرعياً إلا بالنية لرفع موجبه)) لا يكون الغسل شرعياً بالتفريق ما بين من اغتسل تعبداً وقربة لله تبارك وتعالى ومن اغتسل تبرداً مثلاً، فمن اغتسل عادة أو تبرداً أو غير ذلك من الأسباب يريد أن يفرق بينه وبين الغسل الشرعي، فبماذا يكون الفرق؟ بالنية ، برفع موجبه، النية لرفع موجب الغسل، ما الذي أوجب الغسل؟ مثلاً الجنابة، فهو يغتسل بنية رفع الجنابة ، فالنية هذه هي التي تفرق ما بين العبادات والعادات.
وقول المؤلف هذا دليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" .
قال المؤلف رحمه الله:((ونُدب: تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين ))نُدب يعني استُحب، يعني يُستحب أن تقدم غسل أعضاء الوضوء لحديث ميمونة وعائشة المتقدم ، تبدأ بغسل أعضاء الوضوء، لكن هذا على وجه الاستحباب كما ذكر المؤلف وليس وجوباً، اتفق العلماء على أن الغسل يصح من غير وضوء ويغني عن الوضوء، الخلاف حاصل في النية، هل يغني مع عدم النية أم يغني بالنية؟ يعني يجب أن تنوي الوضوء أو لا يجب أن تنوي الوضوء ويحصل الأمر؟ لكن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :"إنما الاعمال بالنيات" أنه يجب أن تنوي رفع الحدثين الأصغر والأكبر كي ينعقد وضوؤك، قال: إلا القدمين ، إلا القدمين لا يستحب أن يقدما على الغسل لحديث ميمونة وذكرنا أن الأمر فيه واسع، يعني ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا وورد هذا، فيُستحب التقديم أحياناً والتأخير أحياناً، ومن فرَّق بالمعنى الذي ذكرناه أيضاً أمره قريب.
قال النووي رحمه الله في المجموع: الوضوء سنة في الغسل وليس بشرط ولا واجب هذا مذهبنا (أي الشافعية) وبه قال العلماء كافة (العلماء كافة أي جميعهم) إلا ما حُكي عن أبي ثور وداود أنهما شَرَطا (أي جعلاه شرطاً) كذا حكاه أصحابنا عنهما ونقل ابن جرير الإجماع على أنه لا يجب، ثم ذكر الأدلة على عدم وجوبه. ومما يدل على عدم الوجوب حديث أم سلمة وحديث جابر المتقدمين.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في "الأم": فرض الله تعالى الغسل مطلقاً، لم يذكر فيه شيئا يُبدؤ به قبل شيء فكيفما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه.ا.هـ
يشير إلى أنه ما ذكر الله سبحانه وتعالى الوضوء في الغسل .
قال المؤلف رحمه الله:(( ثم التيامن)) يعني يستحب أيضاً التيامن في الغسل، أي البدء بالميامن مستحب وذلك لما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبدأ بشق رأسه الأيمن في الغسل، ثم يغسل شق رأسه الأيسر، وجاء في الصحيح أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كنا إذا أصابت إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن وبيدها على شقها الأيسر"، هذا وإن كان من فعل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن له حكم الرفع لأن مثل هذا يكون قد اطلع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أيضاً في عهد التنزيل (في عهد الوحي) فهذا يدل على استحباب البدء بالرأس وبالميامن من الجسم.
نكتفي بهذا القدر