الدرس التاسع

[المجلس التاسع]




الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
نبدأ بدرس الدرر البهية ولن نطيل في هذا الدرس فما بقي في كتاب الطهارة إلا مسألة الحيض فقط نكملها.


قال المؤلف رحمه الله: باب الحيض


تقدم تعريف الحيض، قلنا: هو لغة: السيلان، وشرعاً : دم جِبِلَّة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها، على سبيل الصحة (أي من غير مرض) من غير سبب في أوقات معلومة (أوقات معلومة عند النساء).


قال المؤلف رحمه الله:((لم يأتِ في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة. وكذلك الطهر)) بعض العلماء حددوا وقتاً لأول الحيض وآخره، يعني تقديراً لأوله ولآخره، وكذلك لأول الطهر وآخره فمنهم من قال: أقل الحيض يوم، وبعضهم قال: ثلاثة أيام، وقالوا في أكثره: خمسة عشر، وبعضهم قال: عشرة، وقالوا: ما كان أكثر من ذلك فهو استحاضة وليس بحيض، والخلاف في هذا التحديد كثير لأنه لم يصح فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وكثير من أقوال أهل العلم اعتمدوا فيها على أحاديث ضعيفة أو على واقع النساء على حسب علمهم، وقال جماعة من العلماء بما قاله الشوكاني رحمه الله، وهو أنه ليس لأقل الحيض بالأيام حدٌ ولا لأكثره وقت، والحيض عندهم إقبال الدم المنفصل عن دم الاستحاضة، والطهر إدباره.


قال المؤلف رحمه الله:((فذات العادة المتقررة: تعمل عليها. وغيرها: تَرجع إلى القرائن. فدم الحيض يتميز من غيره، فتكون: حائضاً إذا رأت دم الحيض. ومستحاضة إذا رأت غيره. وهي كالطاهرة. وتغسل أثر الدم )) المرأة إذا أتتها دورتها منتظمة في وقتها المعلوم عندها وانقطعت في وقتها ، تمسك عن الصلاة والصوم وتثبت لها أحكام الحائض ولا إشكال في ذلك، عادة تأتي هذه الدورة دمٌ فاسد ينزل من الرحم في أوقات معلومة عند كل امرأة بشكلٍ مستمر في غالب حياتها، في كل شهر تنزل عليها أياماً معدودة، ثم تنقطع بعد ذلك، ولكن بعض النساء تصيبها حالة من السيلان المستمر للدم هذا، فهذا يكون قد اختلط فيه دم الحيض بدم الاستحاضة، ودم الاستحاضة دم ينزل من أدنى الرحم وليس من قعره، وهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إنما ذاك عرقٌ وليس بدم حيضفهذا الدم الذي هو دم الاستحاضة ليست له أحكام دم الحيض، لأن دم الاستحاضة ليس دم فساد، دم طبيعي، فعندما ينزل دم الاستحاضة هذا يُشْكِل على النساء، فكيف تفعل؟ متى تتوقف عن الصلاة؟ ومتى تصلي؟، قال المؤلف رحمه الله: (( فذات العادة المتقررة تعمل عليها)) المرأة عادة لها عادة متقررة، عادة مستمرة عليها تعرفها المرأة كأن تكون لها مثلاً سبعة أيام من الشهر تحيض فيهن، ثم تمكث خمساً وعشرين يوماً مثلاً تطهر فيهنّ، وبعد ذلك ترجع الدورة بعد خمس وعشرين يوماً، ترجع الدورة وتمكث معها سبعة أيام أو ثمانية أيام حسب ما تعلم هي، ثم بعد ذلك يأتيها الطهر خمساً وعشرين يوماً وهكذا، وتكون عادة متقررة منتظمة، هذه المرأة إذا أصابتها الاستحاضة هذه واستمر عليها نزول الدم ترجع إلى عادتها المتقررة وتعمل بها، أي تمكث السبعة أيام التي كانت تمكثها حائضاً ثم تغتسل وتصلي وإن استمر نزول الدم، لأن هذا الدم يعتبر دم استحاضة، إذاً التي لها عادة متقررة تعرفها هذه لا إشكال فيها، تنظر عادتها التي كانت عليها وتمشي عليها، دليل هذا الذي ذُكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكرت له المستحاضة حالتها قال لها - صلى الله عليه وسلم - :" إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرُها- أي من الأيام التي كنتِ تجلسين فيها- فاغسلي عنكِ الدم وصَلِّي" أخرجه البخاري، هذا دليل ما ذكرنا من مسألة العادة المتقررة
.

ثم قال:(( وغيرها)) أي غير النساء اللاتي لهنَّ عادة متقررة ، أصابتها هذه الحالة التي نذكرها وهي استمرارية نزول الدم وليست لها عادة متقررة، إما لأنها أول ما حاضت حاضت على هذه الحال من صغرها أو لأنها كانت لها عادة متقررة ولكنها نسيتها أو أي سبب من الأسباب المهم أنها ليست لها عادة متقررة، قال :((وغيرها: ترجع إلى القرائن)) يعني تحكم على دم الحيض بأنه دم حيض بالعلامات التي عندها، ما هي هذه العلامات؟ لون الدم، رائحة الدم، الآلام التي تتبع الدورة، هذه كلها قرائن تدل على أن الدم النازل الآن هو دم دورة.

قال:(( فدمُ الحيض يتميز من غيره)) دم الحيض يُعرَف عن غيره، يُعرف بكثافته، يُعرف بلونه، برائحته، النساء تعرف ذلك، ((فتكون : حائضاً: إذا رأت دم الحيض)) بمواصفاته التي تعرفها، ((ومستحاضة: إذا رأت غيره)) إذا رأت أوصاف أخرى ليست الأوصاف التي تعرفها من دم الحيض ، هنا تكون مستحاضة أي تغتسل وتصلي بمجرد أن تغيرت أوصاف الدماء.
قال:((وهي كالطاهرة))أي المستحاضة كالطاهرة في أحكامها، تغتسل وتصلي وتصوم ويجامعها زوجها.
((وتغسل أثر الدم)) تغسل أثر الدم عنها وذلك للحديث الذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للمرأة:" اغسلي عنكِ أثر الدم" فإذاً تغسل عنها أثر الدم وتتوضأ لكل صلاة، تتوضأ لكل صلاة، جمهور أهل العلم على ما ذكر المؤلف، أن المستحاضة يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، يعتمدون في ذلك على رواية عند البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - :" لا" أي لا تدعي الصلاة ،"إنما ذلك عرقٌ وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنكِ الدم ثم صلِّي" إلى هنا الحديث في الصحيحين وما فيه إشكال، قال: (أي: هشام) وقال أبي: (أي: عروة)" ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت" هذه الزيادة الآن : قال هشام: قال أبي(عروة) : "ثم توضئي لكل صلاة" هل هذه اللفظة من قول عروة، من فتواه أم أنها من تمام الحديث؟ حصل خلافٌ بين أهل العلم في ذلك ، فبعضهم قال: هي من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والبعض قال: هي مدرجة من قول عروة، لذلك أشار مسلم في صحيحه بعد أن أخرج الحديث، إلى أنه حذفها عمداً من الحديث، لماذا حذفها عمداً؟ لأنه لا يراها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا مع مسلم فيما ذهب إليه، فقد روى الحديث جهابذة أصحاب هشام ولم يذكروا هذه الزيادة فيه، والبعض زادها بلفظ: "وتوضئي" ولم يقل:"لكل صلاةفالذي يظهر لي والله أعلم أنها فتوى لـِ عروة كان يفتي بها إحدى النساء، فخاطبها بذكر الحديث ثم أكمل من عنده :" ثم توضئي لكل صلاة " والله أعلم ، وبناءً على ذلك فلا يصح حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إلزام المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فلا يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة على الراجح في هذه المسألة، وإن كان هذا القول مخالفاً لجمهور علماء الإسلام، ولكن قال به ربيعه شيخ مالك وقال به مالك ابن أنس أيضاً وهو الصواب إن شاء الله.


قال المؤلف رحمه الله:(( والحائض لا تصلي ولا تصوم)) وذلك لما ورد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة :" أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟" ولم يخالف في ذلك غير الخوارج، لأنهم أصحاب غلو وتنطع، وهذا الحديث واضح ، قال:" أليست إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟" .
وقال رحمه الله:((ولا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر)) أي ولا توطأ الحائض حتى تغتسل بعد أن تطهر من حيضها، لقول الله تبارك وتعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة/222]ولقوله - صلى الله عليه وسلم - :"اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من إتيان الحائض في حال حيضها.



قال المؤلف رحمه الله:((وتقضي الصيام)) ولا تقضي الصلاة، قال المؤلف : وتقضي الصيام أي ولا تقضي الصلاة لحديث عائشة، سألتها امرأة فقالت: أتُجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت:" أحرورية أنتِ؟ كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به" يعني قضاء الصلاة، وفي رواية " كان يصيبنا ذلك فنؤمَر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاةوهذا تخفيف من الشارع وذلك لأن الصلاة كثيرة التي تفوت الحائض فخفّف الله تبارك وتعالى عنها ولم يأمرها بالقضاء بخلاف الصوم، فالصوم الذي يفوتها قليل في خلال السنة لذلك أمرها الله تبارك وتعالى بقضائه والله أعلم.



قال المصنف رحمه الله: فصلٌ
((والنفاس: أكثره أربعون يوماً. ولا حد لأقله. وهو كالحيض)) تقدم تعريف النفاس، وهو دم يخرج من المرأة عند الولادة، لا حد لأقله كما قال المؤلف على الصحيح ، وإذا لم ترَ المرأة النفساء الدم أصلاً تغتسل وتصلي، وأما أكثره فقيلكما قال المؤلف أربعون يوماً، وقيل ستون يوماً، فالذين قالوا: أكثره أربعون يوماً قالوا: بعد الأربعين تغتسل وتصلي وإن استمر الدم، والذين قالوا بالستين، قالوا: تغتسل وتصلي بعد الستين إلا إذا صادف وقت حيضها، إذا صادف وقت حيضها فربما تكون النفاس ثم بعد ذلك جاءت الحيضة بعده مباشرة، أما إذا لم يأتِ وقت الحيضة فتغتسل وتصلي، الذين يقولون بالأربعين يقولون: بعد الأربعين تغتسل وتصلي، والذين يقولون بالستين، يقولون: يكون ذلك بعد الستين، وأما إذا انقطع الدم قبل ذلك فتغتسل وتصلي وإن لم تبلغ الأربعين ولا الستين يوماً، حُجة من قال بالأربعين،حديث أم سلمة، قالت:" كانت النفساء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة" وهو حديث ضعيف فيه مُسَّه الأَزْدية، قال فيها الدارقطني: لا يُحتج بها ، وقال الذهبي رحمه الله بعد أن نقل كلام الدارقطني، قلتُ: لا تُعرف إلا في حديث مُكث المرأة في النفاس أربعين يوماً(ليس لها من الرواية إلا هذه)، والذين قالوا بالستين، قالوا: هو أكثر ما وُجد من النساء، أكثر ما وجدنا من النساء أنها تمكث في نفاسها ستين يوماً، ولعل هذا القول أقرب إلى الصواب، فقد رأينا نساءً يمكثنَ في نفاسهنَّ شهرين كاملين، فهذا يدل على أن النفاس يبقى مع المرأة لمدة شهرين، والحديث المذكور الذي يستدلون به ضعيف لا يصح كما ذكرنا وقد حمله بعض أهل العلم على التسليم بصحته على أن هذا هو الذي كان موجوداً في عهدهم ، أن النساء كان النفاس يبقى معهنَّ أربعين يوماً ثم ينقطع، وهذا هو غالب حال النساء أصلاً فلذلك فليس فيه دليل على أن هذا أكثر النفاس، والقول بالستين هو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه، وفي قولٍ عن مالك قال: يُسأل عن ذلك النساء وأهل المعرفة.



وبهذا نكون قد انتهينا من كتاب الطهارة