الدرس الرابع و العشرون
[ الدرس الرابع و العشرون ]
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه أجمعين، نكمل كتاب الجنائز.
قال المؤلف رحمه الله: فصل: ويكون المشي بالجِنازة سريعا.
هذا لما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة فان كانت صالحة فخير تقدمونها إليه و إن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" متفق عليه، فإذا حُملت الجنازة على الرقاب فمن السنة الإسراع بها, قال النووي رحمه الله في كتابه المجموع: واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره و نحوه فيتأنى،- يعني إذا خشينا من مفسده تعود على الميت فعندئذ لا يُسرع بها وإلا الأصل و السنة أن يُسرع بها, و قال ابن القيم رحمه الله: وأما دبيب الناس اليوم خطوةً خطوة –يعني مشيهم في الجنازة خطوة خطوة كما نرى اليوم- فبدعة مكروهة مخالفة للسنة و متضمنة للتشبه بأهل الكتاب اليهود, هذا العمل ليس من عمل المسلمين –أن نمشي بالجنازة خطوة خطوة, بل السنة أن يسرع بها كما أمر صلى الله عليه و على آله وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: والمشي معها والحمل لها سنة.
المشي معها سنة, لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي هو و أصحابه مع الجنائز, بل قال صلى الله عليه و سلم "من اتبع جنازة مسلم إيماناً و احتساباً و كان معه حتى يُصلى عليها و يفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد و من صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط" و هذا الحديث أيضاً متفق عليه، فالمشي معها سنة و أجرها عظيم و حملها كذلك سنة, قال صلى الله عليه و سلم: "أسرعوا بالجنائز فان كانت صالحة ...- إلى أن قال-...فشر تضعونه عن رقابكم" متفق عليه، فقوله – فشر تضعونه عن رقابكم- دليل على الحمل على الرقاب و في رواية عند البخاري, "إذا وضعت الجنازة و احتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني", هذا يدل على سنية حملها على الرقاب, و أجمع العلماء على أن حمل الجنازة فرض على الكفاية، وقلنا الفرض فرضان: فرض كفاية و فرض عين, فرض العين هو الذي يجب على كل مسلم بعينه أن يعمل هذا العمل, أما الفرض الكفائي فهو واجب على الأمة ككل, فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فالعمل لا يُطلب من كل شخص و لكن يُطلب أن يُعمل فلابد أن يُعمل, فإذا عمله البعض سقط عن الباقين, و إذا لم يعمله أحد أثم كل من علم به و لم يفعله، ولعل المؤلف يشير أيضاً الى حديث ابن مسعود "من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم ان شاء فليتطوع و إن شاء فليَدع" لكن هذا الحديث أخرجه ابن ماجة و فيه انقطاع فهو ضعيف لا يصح و لا يعمل به، و لا يصح أيضاً في كيفية حملها و لا عدد الذين يحملون حديث.
قال المؤلف رحمه الله: و المتقدم عليها و المتأخر عنها سواء.
أي لا فرق بين من مشى أمام الجنازة و هي محمولة, و من مشى خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها كله سواء و كله جائز إن شاء الله لأن لم يصح في تفضيل من مشى أمامها حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فيبقى الأمر على أصله في أن الكل واسع و جائز.
قال المؤلف رحمه الله: ويكره الركوب.
ورد في ذَمِّه أحاديث لا تصح, فيبقى على الجواز، ولكن المشي و عدم الركوب هو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه و سلم, فالسنة إذاً المشي مع الجِنازة لا الركوب, و الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مشى الجنازة حتى دفنت ثم بعد ذلك أُتي بفرس و ركب، هذا يدل على أن السنة هي المشي لا الركوب في أثناء حمل الجنازة.
قال المؤلف رحمه الله: و يَحرُم النعي.
النعي في اللغة: هو الإخبار بموت الميت, و المؤلف ذهب إلى التحريم لحديث حذيفة بن اليمان عند الترمذي و غيره – كان إذا مات له الميت قال: لا تؤذنوا به أحداً-، حذيفة بن اليمان صحابي جليل معروف- كان إذا مات له الميت قال: لا تؤذنوا به أحداً. يعني لا تعلموا به أحداً, إني أخاف أن يكون نعياً إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن النعي, و لكن الحديث هذا من رواية بلال بن يحي عن حذيفة بن اليمان و هو منقطع, فيحي بن معين قال هو مرسل, و أشار إلى ذلك أبو حاتم الرازي أيضاً, فهو حديث ضعيف، و كذلك ورد حديث عن ابن مسعود كذلك ضعيف لا يصح، و الصحيح أنه يجوز الإخبار بموت الميت, فالنبي صلى الله عليه و سلم عندما مات النجاشي أخبر أصحابه بموته, و كذلك عندما مات جعفر بن أبي طالب و من معه في المعركة أخبر الصحابة بأنه قد قُتل جعفر و قتل من معه, دلَّ ذلك على جواز الإخبار و جواز النعي المذكور –بمعنى الإخبار عن موت الميت- خصوصاً إذا كان المُخبَر سيصلي على الميت –سيشارك في الصلاة على الميت أو في تكفينه أو في دفنه- فلابد من إعلان, فالخلاصة أحاديث النهي عن النعي لا تصح, و الصحيح هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموت غير واحد من الصحابة.
قال المؤلف رحمه الله: و النياحة.
أي وتَحرُم النياحة, النياحة هي رفع الصوت بالندب – أي بترديد محاسن الميت-, كما نسمع من بعض النساء عندما يموت تبقى تولول...يا جبلي, يا حافظي, يا كذا...الخ, هذه هي النياحة, وقيل البكاء مع صوت – أي مع رفع الصوت...يا ويلاه...يا ويلاه...كهذه الكلمات هذا من النياحة وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب" أخرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه و سلم: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه"، لكن هذا إذا كان مُقراً لهذا الفعل في حياته و راضياً به، و قال صلى الله عليه و سلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب و الطعن في الأنساب و الاستسقاء بالنجوم و النياحة", أما الفخر في الأحساب معناه ما يعده الرجل من الخصال الحميدة – ما يعده الرجل لنفسه من الخصال الحميدة- كالشجاعة و الكرم وغير ذلك، يبقى يفتخر لنفسه ولآبائه و لأجداده بهذه الأفعال, و الطعن في الأنساب إدخال العيب في أنساب الناس و الطعن فيها و الغمز فيها و التقليل من شأنها أيضاً هذا من أعمال الجاهلية التي ستبقى كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم، و هي محرمة بالطبع كونها من أعمال الجاهلية، و النبي صلى الله عليه و سلم ذكرها تحذيراً منها فهي محرمة, و الاستسقاء بالنجوم: أي طلب السقيا بالنجم، كما جاء في حديث آخر كانوا يقولون مُطرنا بنوء كذا و كذا، أي مطروا بالنجم الفلاني, هو الذي يمطرهم وهذا أيضاً من أعمال الجاهلية، و النياحة كما تقدم تعريفها، و قالت أم عطية رضي الله عنها –أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مع البيعة أن لا ننوح- أي أخذ عليهم النبي صلى الله عليه و سلم عندما جاءت النساء تريد أن تبايع عند النبي صلى الله عليه و سلم فاشترط عليهن أن لا ينحن, و هو في الصحيح، و نقل النووي رحمه الله الإجماع على تحريم النياحة.
قال رحمه الله: واتباعها بنار و شق الجيب و الدعاء بالويل و الثبور.
أي و يَحرمُ اتباع الجِنازة بنار, ورد في ذلك حديث ضعيف أخرجه أبو داود و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار", لكن صحَّ من قول عمرو بن العاص أنه نهى عن إتباعه بصوت أو نار، و أما تحريم شق الجيب فلقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"، و هذا الحديث متفق عليه في الصحيحين، ليس منا من ضرب الخدود, معروف هو اللطم. و شق الجيوب, هذا هو الجيب – هو المكان الذي يدخل منه الرأس مكان الثوب الذي يدخل منه الرأس هذا هو- وشق الجيوب كانت المرأة إذا أصابتها مصيبة أمسكت ثوبها و قطَّعته, و هذا محرَّم، و دعوى الجاهلية, كالدعاء بالويل و الثبور و النياحة و غيرها من أنواع الدعاوى التي نهى عنها النبي صلى الله عليه و سلم، و أما تحريم الدعاء بالويل و الثبور فهو داخل في دعوى الجاهلية المتقدمة في الحديث الماضي، و جاء في حديث عند ابن ماجة و ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن الخامشة وجهها, التي تخمش وجهها بأظفارها و الشاقة جيبها و الداعية بالويل و الثبور و هو أيضاً حديث من رواية أبي أسامة عن عبد الرحمان بن يزيد بن جابر هذا الحديث من رواية أبي أسامة عن عبد الرحمان بن يزيد بن جابر – المفروض أنكم قد حفظتم هذا الإسناد- ما هي علته؟ -نعم- وروى أبو أسامة عن عبد الرحمان بن يزيد و ظنَّه ابن جابر و لكن حقيقة رواية أبي أسامة عن عبد الرحمان بن يزيد هي عن عبد الرحمان بن يزيد بن تميم الضعيف لا عن عبد الرحمان بن يزيد بن جابر, وقد انطلت هذه العلة على بعض أهل العلم الأفاضل فحسّنوا الحديث, و لكن هذا الحديث ضعيف بعلته هذه، و الويل هو العذاب، و الثبور هو الهلاك.
قال المؤلف رحمه الله: و لا يقعد المتبع لها حتى توضع.
أي أنه من مشى مع الجنازة لا يجلس حتى توضع الجنازة في قبرها, هذا الحكم الصحيح أنه منسوخ, الصحيح في هذا الحكم أنه كان بداية ثم نسخ بعد ذلك, جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبع فلا يجلس حتى توضع" هذا الحديث متفق عليه و هو ظاهر فيما ذكره المؤلف, لكن ناسخه عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب قال قام النبي صلى الله عليه و سلم – يعني في الجنازة- ثم قعد, و في رواية في السنن ثم جلس بعد ذلك و أمرنا بالجلوس – أي أنه كان الحكم بداية ثم نسخ و رُفع هذا الحكم و أذن لهم بالجلوس حتى قبل أن توضع.
فال رحمه الله: و القيام لها منسوخ.
الآن فرَّق المؤلف رحمه الله بين القيام للجنازة و القعود للمتبع حتى توضع الجنازة، فجعل الثاني منسوخاً – الثاني عنده الذي هو القيام للجازة جعله منسوخ بينما الجلوس قبل أن توضع جعله ثابتاً و ليس بمنسوخ, لكن هذا التفريق غير صحيح، الصحيح أن هذه الأحكام كلها منسوخة كانت بدايةً ثم رفع الحكم, و دليل النسخ ما سيأتي، أخرج الطحاوي رحمه الله من حديث علي بن أبي طالب أنه أجلس أقواماً كانوا ينتظرون الجنازة أن توضع – كان أقوام مع علي بن أبي طالب ينتظرون الجنازة أن توضع كي يجلسوا فقال لهم علي بن أبي طالب اجلسوا – أجلسهم قبل أن توضع الجنازة- ثم قال لهم: (إن النبي صلى الله عليه و سلم قد أمرنا بالجلوس بعد القيام)، فهذا يدل على أن النسخ لاحق للأمرين, للقيام عند مرور الجنازة أو عند المشي معها, و أيضاً للأمر بالقيام قبل أن توضع فكله منسوخ, فيجوز أن تجلس قبل أن توضع أو بعدها و الحكم بالقيام منسوخ على الصحيح.
قال رحمه الله: فصل: دفن الميت.
ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه السباع.
هذا الفصل في قضية الدفن الآن انتهى من إتباع الجنازة و بدأ بدفنها, فقال و يجب دفن الميت في حفرة تمنعه السباع، السباع: الحيوانات المفترسة التي تأكل الجثث, و هذا الذي ذكره المؤلف أمرٌ مجمع عليه, لا خلاف فيه البتة بين العلماء أنه يجب دفن الميت، قال صلى الله عليه وسلم: "ادفنوا الاثنين و الثلاثة في القبر"، و أيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "احفروا و أعمقوا و أحسنوا"، التعميق: كي تكون بعيداً عن متناول السباع – يكون القبر عميقاً-, و الإحسان يكون القبر واسعاً على قدر الميت بحيث يسعه.
قال المؤلف رحمه الله: ولا بأس بالضرح و اللحد أولى.
القبر قبران قبر ضرح و قبر لحد, الضرح: هو الشق في الأرض – يفعله الناس اليوم كثير غالب قبور الناس اليوم من الشق- يفتح قبراً بشكل مستقيم و ينتهي الأمر هذا يسمى ضرحاً، أما اللحد: و هو الشق في جانب القبر – يعني تحفر قبر و تنزل فيه مسافة ثم من جهة القبلة في آخره تحفر إلى جهة القبلة تميل به هكذا- هذا يسمى لحداً، و قول المؤلف: لا بأس بالضرح أي أنه جائز، و قوله واللحد أولى: أي هو المستحب و هو المقدم، هو الأفضل, لأن اللحد أقرب لإكرام الميت من الشق، الشق: عندما تضع شقاً و تضع الميت ثم تهيل عليه التراب إلا ينزل على وجهه شيء من التراب, فإكراماً له يوضع في اللحد يكون في مأمن من ذلك, و أيضاً جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه -...الحدوا لي لحداً و انصبوا علي اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم, -هذه أفضل الحالات-، الصحابة فعلوا أفضل شيء مع النبي صلى الله عليه و سلم, فحفروا له لحداً و نصبوا عليه اللبن نصباً, - كيف يكون النصب؟- عندما تحفر بطريق اللحد توقف اللبن, سيقف هكذا بهذه الطريقة, فينصب اللبن عليه نصباً، هذا الذي فُعل بالنبي صلى الله عليه و سلم وهي أكمل الصور وأجودها، نصب اللبن يكون بهذه الطريقة – عندما تضع...فالنقل هذا جدار القبر في آخره من تحت سيكون ميلان إلى ناحية القبلة يوضع في هذا الميلان سيوضع الميت على جنبه الأيمن ناحية القبلة- ثم بعد ذلك يأخذ اللبن وينصب هكذا بهذه الطريقة, بطريقة شبه مائلة قليلا حتى يغلق عليه ثم بعد ذلك يُهال التراب عليه، وجاء أيضاً في حديث البراء عند أبي داود -...خرجنا في جنازة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم, فانتهينا إلى القبر ولم يُلحَد بعد-, هذا يدل على أن القبور التي كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو اللحد, لكن كما ذكر المصنف أن هذا جائز و هذا جائز لكن الأفضل و الأولى أن يكون لحداً، وكذلك في الحديث المتقدم حديث سعد يبين لنا أن نصب اللبن مشروع و هو الذي فُعل بالنبي صلى الله عليه وسلم, و كما ذكرنا لكم لا يفعل بالنبي صلى الله عليه و سلم إلا ما هو أكمل و أفضل, فإذاً وضع اللبن في القبر على الميت مشروع، ونقل النووي رحمه الله الإجماع –إجماع العلماء- على جواز اللحد و الشق بالاتفاق أن هذا جائز و هذا جائز و لكن المسألة مسألة أفضل و أولى فقط.
قال المؤلف رحمه الله: و يُدخَل الميت من مؤخر القبر.
يريد بذلك أنك عندما تدخل الميت إلى القبر تأتي من عند رجلي القبر و تدخله، لكن هذا الحديث الذي ورد في هذه الصفة أختلف في صحته والراجح أنه ضعيف لا يصح, فيكون الأمر واسعاً سواءً من رجلي القبر أم من أمامه أم خلفه لا بأس, و قد اختلف أئمة الفقهاء في هذه المسألة, البعض قال الأفضل أن يدخل من رجلي القبر والبعض قال الأمر واسع, و بما أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف فيبقى الأمر واسعاً و الله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: و يوضع على جنبه الأيمن مستقبلاً.
أي الميت يوضع في قبره على جنبه الأيمن, مستقبلاً: أي مستقبلاً القبلة, إلى ناحية القبلة، – وأنا لم أجد في هذا لا كتاب و لا سنة لكن نقل العلماء الاتفاق و لكن عندنا ثلاث: كتاب و سنة و إجماع و قد نقلوا الاتفاق في هذه المسألة أنه لا يزال هذا عمل المسلمين أنهم يضعون الميت في لحده على جنبه الأيمن, فالاتفاق حجة في هذا الباب و هو كاف إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله: ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات.
اختلف العلماء في هذه المسألة, البعض قال هذه سنة مستحبة و استدل بحديث من حديث أبي هريرة عند أبي داود, قال: إن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً لكن هذا الحديث أعلَّه أبو حاتم الرازي رحمه الله بالإرسال فقال هو حديث مرسل, وله عدة أخرى أيضاً بينها الدارقطني رحمه الله في كتابه العلل, وورد حديث آخر أيضاً ضعيف مثله من حديث عامر ابن ربيعة فلا يصح في هذا الباب شيء و الله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: و لا يُرفع القبر زيادةً على شبر.
القبر لا يجوز أن يُرفع زيادة على شبر – لماذا؟ لحديث علي عند مسلم في صحيحه, قال علي لأبي الهياج الأسدي (...ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال بلى, قال ألّا تدع تمثالاً إلا طمسته، و في رواية ... صورةً إلا طمستها, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، هذا هو الشاهد، و لا قبراً مشرفاً إلا سويته: يعني مرتفعاً عن الأرض إلا جعلته مستوياً بالأرض، ولكن جاء في الحديث الصحيح أن القبر يجوز رفعه عن الأرض قدر شبر, و أن قبور الصحابة كانت مسنمة – يعني أنها معمولة كالسنام و لكنها لا ترتفع أكثر من شبر واحد فقط, هذا هو المشروع في القبور, أما ما نراه اليوم من بناء كأن الشخص يعمل غرفة نوم و إلا حديقة في القبر هذا ليس أمراً مشروعاً البتة و لم يأمرنا به صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: و الزيارة للموتى مشروعة.
و هذا لقوله صلى الله عليه و سلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، هذا أخرجه مسلم في صحيحه, أي أن زيارة الميت كانت بدايةً محرمة, نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم و أُمر بها, و الأمر يكون هنا على الجواز لا على الوجوب لأنه جاء بعد تحريم، و أَذن أيضاً ربنا تبارك و تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بزيارة قبر أمه, بعد أن استأذن رب العزة في زيارة قبر أمه فأُذن له النبي صلى الله عليه وسلم، يدل ذلك على أن زيارة القبور جائزة، و قال صلى الله عليه و سلم فيبين لنا حكمة زيارة القبور فجاء في صحيح مسلم قال صلى الله عليه و سلم: "زورو القبور فإنها تذكر الموت"، الشخص عند ما يذهب إلى القبر و يرى الوضع هناك يتذكر أن مآله بعد فترة من الزمن أن يكون من أصحاب هذه القبور, و إما أن يكون في حفرة من حفر النار, أو في روضة من رياض الجنة فيعمل لما هو آت، والرجال و النساء في ذلك سواء على الصحيح, اختلف أهل العلم في زيارة المرأة للقبور هل هي جائزة أم لا؟ الصحيح أنها جائزة بشرط أن لا يبدر منها ما يخالف شرع الله من لطم الخدود و شق جيوب أو غير ذلك من المحظورات، و سبب الخلاف هو وجود بعض الأحاديث التي تدل على التحريم و هو قوله صلى الله عليه و سلم "لعن الله زائرات القبور"، و جاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مرَّ بامرأة وكانت جالسة عند قبر و تبكي فقال لها: "اتقي الله و اصبري" فقالت إليك عني, ثم قالوا لها هذا نبي الله صلى الله عليه و سلم, فذهبت إليه و اعتذرت، شاهدنا من الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم مرَّ بها و هي عند القبر و لم ينهها عن زيارة هذا القبر, و الصحيح كما ذكرنا و الصحيح أن زيارة القبور للنساء جائزة بشرط كما ذكرنا أن لا يبدر منها معصية أو مخالفة لشرع الله هذا الأمر الأول, الأمر الثاني أن لا تكون هذه الزيارة بشكل متكرر كثير, لأن الصحيح في هذا الحديث الذي ذكروه و استدلوا به على التحريم الصحيح في لفظه قوله صلى الله عليه و سلم "لعن الله زوارات القبور"، و زوارات هذه تفيد الكثرة, كثرة الزيارة فيكون الجمع بين هذه الأحاديث أن الكثرة هي المحرمة لا أصل الزيارة. -...لا ما يجوز التخصيص لأن هذه زيارة القبور أشياء قد شرعها الله تبارك و تعالى, و كل عمل لم يشرعه الله تبارك و تعالى فلا يجوز فتخصيص زيارة القبر بيوم العيد تشريع جديد, تخصيص زيارة القبر في يوم العيد تشريع جديد يحتاج إلى دليل من كتاب أو سنة، فمن لم يتمكن من الإتيان بدليل من الكتاب السنة فيكون عمله هذا بدعة محدثة, أصل الزيارة جائزة, لكن تخصيصها بزيارة يوم العيد لم الرسول صلى الله عليه و سلم يزور القبور في يوم العيد و لا كان صحابة رسول الله يزورون القبور في يوم العيد , فلو كان هذا العمل مشروعاً لفعلوه و هم أحرص منا على الخير بكثير, فعدم فعلهم له يدخل في قول النبي صلى الله عليه و سلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، و تخصيص العبادة في زمن معين أمر تشريعي, أمر من عند الله لا من عند أنفسنا فلا يجوز لنا أن نخصص أي عبادة من العبادات بوقت معين في يوم معين أو زمن معين أو شهر معين إلا أن يكون عندنا دليل من الكتاب و السنة و إلا كان العمل مردوداً على صاحبه كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: ويقف الزائر مستقبلا القبلة.
زائر القبر يقف مستقبلا للقبلة صح في ذلك حديث عن البراء أنه جلس صلى الله عليه و سلم مستقبل القبلة لمَّا خرج إلى المقبرة أخرجه أبو داود, و كان صلى الله عليه و سلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المسلمين و إنا إنشاء الله بكم للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية" أخرجه مسلم, فهذا الحديث يدل على سنية هذا الذكر عند المرور بالمقابر أو عند دخولها.
و قال رحمه الله: ويحرم اتخاذ القبور مساجد.
الأحاديث التي تدل على ذلك كثيرة, و منها قوله صلى الله عليه و سلم: "لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" و هذا متفق عليه، قالت عائشة – بعد أن روت هذا الحديث- قالت (يحذر ما صنعوا) أي احذروا من أن تتخذوا قبور أنبيائكم مساجد، وقال صلى الله عليه و سلم: "أولئك قوم إذا مات قيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا و صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله", و قال صلى الله عليه و سلم: "لا تتخذوا قبري و ثناً" و في لفظ "مسجداً" و في مسلم "لا جلسوا على القبور ولا تصلوا إليها و لا تصلوا عليها"، هذا كله يدل على تحريم اتخاذ القبور مساجد و منها هنا, قال أهل العلم الصلاة في المقبرة باطلة- لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد نهى عن ذلك, و بما أنه نهى عنها عن صلاة في مقبرة إذاً فالصلاة لا تصح ولا تجوز الصلاة في مقبرة سواء كان القبر قبل المسجد أو المسجد قبل القبر كله لا يجوز الصلاة فيه – لماذا لأنها أصبحت مقبرة،- قبر و مسجد لا يجتمعان البتة- إما قبر أو مسجد, لا ثالث لهما.
قال المؤلف رحمه الله: وزخرفتها.
أي القبور, فيَحرمُ زخرفة القبور لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن البناء عليها و تجصيصها, قال جابر بن عبد الله نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجصص القبر و أن يقعد عليه و أن يبنى عليه، و التجصيص هو التبيض, استعمال الجص و هو الجبس في تبيض القبور، فهذا يدل على تحريم تزيين و زخرفة القبور, و هذا كله سداً لذريعة الغلو في القبور، لماذا؟ لأن أصل الشرك بالله كان سببه ماذا؟ الغلو في الصالحين, أصل الشرك الذي وقع بين الناس أصله الغلو في الصالحين, مجاوزة الحد فيهم و ذلك أنَّ ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان قوم نوح على التوحيد –كانوا موحدين خالصين لله تبارك و تعالى- و كان فيهم رجال صالحين فلما مات الرجال الصالحون جاءهم الشيطان و قال لهم صوروا لهم صوراً تتذكرونهم بها و تعبدون الله كعبادتهم فصوروا لهم صوراً و جعلوها في النادي – في ناديهم- يتذكرون, فلما مات هؤلاء القوم و نُسي العلم – هذه مسألة مهمة- فلما لم يعد بينهم علماء يبينون لهم الحق من الباطل – ماذا حصل مع أولئك, جاءهم الشيطان و قال لهم بأن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها فوقع الشرك في الناس, ثم أرسل الله تبارك و تعالى نوحاً لهؤلاء القوم كي يردهم إلى التوحيد بعد أن حصل معهم الشرك, ثم عادت الكرة من جديد، واتخذ الناس كثيراً من القبور في زماننا هذا آلهة تعبد مع الله تبارك و تعالى, تجدهم يطوفون حول القبر, يذبحون لصاحب القبر, يتضرعون له و كأنهم يدعون الله لعلهم لا يخلصون في أدعيتهم كإخلاصهم عند القبر ذلك, فيعبدون القبر كأنهم يعبدون الله تماماً، و هذا هو الشرك بعينه وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يحذر منه فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد"، فكان يخشى صلى الله عليه و سلم من هذا الشيء, فلابد الحذر من هذا الأمر فكل هذه الأوامر التي جاءت عن النبي صلى الله عليه و سلم في القبور خشية أن يقع الناس في الغلو فيها مجاوزة الحد فيها, و مع ذلك لم يمنع ذلك من احترامها و تقديرها و إعطائها حقها كما سيأتي.
قال: و تسريجها.
تسريجها: يعني إضاءة السرج الذي هو الضوء, السراج هو الضوء سواء كان بالطرق للإضاءة التي كانت عندهم قديماً كالفوانيس الموجودة عندنا اليوم و ما شابه, أية طريقة من طرق الإضاءة هذه أيضاً على ما ذهب إليه المصنف أنها لا تجوز بناءً على حديث عند أبي داود و لكنه ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله: و القعود عليها.
الآن جئنا إلى المسألة الثانية و هي مسألة احترام القبور و تقديرها احتراماً لأهلها، انتهينا من سد الذريعة من الغلو فيها و الآن جئنا لمسألة احترام، أنظر شريعة الله دائماً هكذا, لا إفراط و لا تفريط دائماً اعتدال في الأمور لا تحاول أن تغلو و لا أن تقصر ابق معتدلاً، و لا يمكنك أن تكون معتدلاً إلا إذا تقيدت بكتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
قال: و القعود عليها.
أي القعود على القبور محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم, و تقدم أنه نهى أيضاً عن القعود على القبور احتراماً لأصحابها كما جاء في الحديث المتقدم من حديث جابر –نهى الرسول صلى الله عليه و سلم أن يُجصص القبر وأن يُقعد عليه و أن يُبنى عليه, ثلاثة أمور نهى صلى الله عليه و سلم.
قال المؤلف رحمه الله: و سب الأموات.
قال صلى الله عليه و سلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا", قد ذهبوا إلى ما قدموه من خير أو شر أخرجه البخاري، وقال صلى الله عليه و سلم: "لا تذكروا هلكاكم إلا بخير" لا تذكروهم إلا بخير أخرجه النسائي و غيره, و قال صلى الله عليه و سلم: "لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء"، و لكن إذا احتجنا إلى ذكره بسوء لمصلحة شرعية معتبرة – هل يجوز؟ نعم يجوز, دليل ذلك جاء عن أبي هريرة أنه قال: (...مُرّ على النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة فأثني عليها خيراُ في مناقب الخير فقال: "وجبت"، ثم مروا عليه بأخرى فأثني عليها شراً في مناقب الشر– هذا هو الشاهد فذكروها بماذا ؟ بشر و هو ميت ومع ذلك أقرهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال: "وجبت، إنكم شهداء الله في الأرض"، أخرجه ابن ماجه و غيره, فإذا كان هناك مصلحة شرعية معتبرة فلا بأس, يعني نحن الآن أهل الحديث عندما يقولون هذا الحديث ضعيف في سنده فلان كذاب هالك ...إلخ, هل هذا داخل في النهي؟ لا -لماذا؟ لأن هذا لأجل حفظ الشريعة, لحفظ دين الله سبحانه و تعالى و تمييز الحديث الصحيح من الحديث الضعيف, كذلك الكلام في أهل البدع و الضلال الذين انحرفوا في دين الله عن الجادة, لابد من بيان ما عندهم من أخطاء كي يحذر الناس من الوقوع في هذه البدع و الضلالة و الأخطاء.
قال المؤلف رحمه الله: والتعزية مشروعة.
لحديث أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه و تخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ و لله ما أعطى و كل شيء عنده بأجل مسمى, فمُرها فالتصبر و لتحتسب"، هذا متفق عليه، التعزية: هي التصبير, الحث على الصبر بذكر ما يسلي المصاب و يخفف حزنه و يهون عليه مصيبته, هذا معنى التعزية، و التعزية تكون بكلمات كالكلمات التي قالها صلى الله عليه و سلم, لابنته، لم يذهب صلى الله عليه و سلم وجاب كراسي و جمع الناس و عمل المناسف و لا فعل شيء من هذا, كل هذا لا أصل له في شرع الله، إنما التعزية كما فعل, أرسل إليها مُرسلاً كي يخبرها بكذا و كذا, ولكنها لم تقبل بالمُرسل حتى جاءها صلى الله عليه و سلم, ووقف عليه و رأى روحه تفيض فبكى صلى الله عليه و سلم و ذكر أنها رحمة جعلها الله في قلوب عباده, و لكن صلى الله عليه و سلم كما ذكرنا لم يفعل ما يفعل الناس و لم يتكلف تكلف الناس اليوم و لم يقع في الإسراف و التبذير و في مجاوزة الحد الذي يقع فيه الناس اليوم, فهذه الأشياء التي تحصل فيها منكرات عظيمة و كثيرة جداً من إسراف و تبذير و رياء و سمعة و غير ذللك من الأشياء التي ما شرعها الله تبارك و تعالى.
و قال رحمه الله: وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت.
إهداء الطعام لأهل الميت جاء فيه حديث عن عبد الله بن جابر قال: جاء نعي جعفر حين قتل فقاتل النبي صلى الله عليه و سلم: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، احتج بعض الناس بهذا الحديث يقول: أه النبي صلى الله عليه و سلم قال اصنعوا لآل جعفر طعام, اصنعوا لآل جعفر طعام - كمل الحديث - فإنه جاءهم ما يشغلهم, يعني أهل بيت عندهم ما يشغلهم يحتاجون أن يدفنوا ميتهم و أن يفعلوا و يفعلوا, فانشغلوا بذلك عن أن يصنعوا لهم طعاماً يأكلونه فيُصنع الطعام فقط لأهل البيت الذين انشغلوا كي يأكلوا لأنه ما عندهم من يصنع لهم الطعام فقط، مش تعمل العيلة و عيلة العيلة و القبيلة كلها, هذا ما شرعه الله بشيء مع أن هذا الحديث أصلاً حديث ضعيف لا يصح –نعم- نكتفي بهذا القدر و سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت و أستغفرك و أتوب إليك.