الدرس الثاني والثلاثون
[الدرس الثاني والثلاثون]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله: باب الاعتكاف.
الاعتكاف في لغة العرب هو لزوم الشيء، وفي الشرع اللُبث في المسجد على صفة مخصوصة بنية.
هذا الاعتكاف شرعاً: اللُبث في المسجد (لا بد أن يكون اللُبث في مسجد) على صفة مخصوصة، يكون اللُبث في المسجد بنية التعبد.
قال المؤلف رحمه الله: يشرع ويصحّ في كل وقت في المساجد.
يُشرع ويصحّ في كل وقت في المساجد، لا خلاف بين علماء الإسلام في مشروعية الاعتكاف، وقد ذُكر في كتاب الله تبارك وتعالى، فقال جل في علاه: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف في أحاديث كثيرة منها ما هو في الصحيحين، وأجمع المسلمون على مشروعيته، ولم يصحَّ في فضله شيء من ناحية المشروعية، قدَّمنا أنَّه مشروع، أمَّا من ناحية الفضيلة فلا يصحّ في فضيلة الاعتكاف شيء، نفى الإمام أحمد رحمه الله أن يَعلم في فضله شيئاً صحيحاً، سئل هل تعلم في فضل الاعتكاف شيء صحيح؟ فقال: لا، ويصحّ الاعتكاف في كل وقت لأنه ورد ما يدل على مشروعيته ولم يأت ما يدل على تخصيصه بوقت معين، وأمّا كونه في المسجد لا في غيره فلقول الله تبارك وتعالى "وأنتم عاكفون في المساجد"، ولفعله صلى الله عليه وسلم حيث كان يعتكف في المساجد، ولم يُنقل عنه أنّه اعتكف في غير مسجد والعبادات توقيفية، فإذن الاعتكاف يكون في مسجد.
قال المؤلف رحمه الله: وهو في رمضان آكد سيَّما في العشر الأواخر منه.
سيَّما هذه يأتون بها بمعنى أنه أولى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تبارك وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها على ما جاء في الصحيحين، لذلك كان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أولى من غيره، وكما ذكرنا ليس للاعتكاف وقت محدد فهو يتحقق في المسجد مع نية الاعتكاف طال الوقت أم قصر، ولكنَّ الأفضل أن يكون الاعتكاف يوماً وليلة لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه اعتكف أقل من ذلك، وشروطه: يُشترط في المُعتكِف أن يكون مسلماً مميزاً لأن الكافر لا تُقبل منه العبادات حتى يُسلم، ولا بد أنَّ يكون مميزاً لأن المميز هو الذي يصح منه التعبد وقصد الطاعة، فلا يصحّ الاعتكاف من كافر ولا من صبي غير مميز، ولا يشترط له الصيام بعض أهل العلم اشترط الصيام للاعتكاف، ولكنّ الصحيح أنّه لا يُشترط، لأن ابن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الليل ليس محلاً للصيام، إذن فيصح الاعتكاف من غير صيام.
أركان الاعتكاف: حقيقة الاعتكاف هي المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله، فلو لم يقع المكث في المسجد أو لم تحصل نية الطاعة لا ينعقد الاعتكاف ويصح الاعتكاف في كل مسجد خُصَّ بإقامة صلاة الجماعة، لأن المسجد هو المكان الذي خُصَّ لإقامة صلاة الجماعة فيه، فأي مسجد خُصَّ لإقامة صلاة الجماعة فيه يصحّ الاعتكاف فيه لقول الله تعالى: "وأنتم عاكفون في المساجد"، هذا يشمل كل ما يصح إطلاق المسجد عليه، وأما حديث: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" فهو حديث ضعيف لا يصح .
قال رحمه الله: ويُستحب الاجتهاد في العمل فيها.
يُستحب الاجتهاد في العمل في الليالي الأخيرة من رمضان، في العشر الأواخر من رمضان لحديث عائشة في الصحيحين قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله وأيقظ أهله وشد المئزر" كناية عن الجدّ والاجتهاد في العبادة، ففي العشر الأواخر ليلة القدر، الترغيب في قيام العشر الأواخر من رمضان لوجود ليلة القدر فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقومها ويجتهد فيها، ولوجود ليلة القدر أيضاً فيها، ومن أدرك ليلة القدر فقد أدرك خيراً كثيراً.
قال رحمه الله: وقيام ليالي القدر.
أي ويُستحب قيام الليالي التي يتوقع أن تكون ليلة القدر فيها وهي ليالي العشر الأواخر من رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه، والصحيح أنّ ليلة القدر لا تُعرف لها ليلة معينة، فمن أرادها فليتحراها في العشر الأواخر من رمضان فمن قام العشر الأواخر من رمضان فقد أدرك ليلة القدر ولا شك إن شاء الله.
قال رحمه الله: ولا يخرج المُعتكِف إلّا لحاجة
أي لا يجوز للمُعتكِف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة كقضاء حاجة مثلاً أو الاتيان بطعام أو شراب أو نحو ذلك من الأشياء التي لا بد له منها، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً" متفق عليه، والخروج لغير حاجة عمداً يُبطل الاعتكاف لأن الخروج يُفوت المكث، والمكث في المُعتَكف ركن من أركان الاعتكاف فلذلك الخروج لغير حاجة يُبطل الاعتكاف، وكذلك يُبطله الجماع لقول الله تبارك وتعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، فالجماع مبطل للاعتكاف والخروج لغير حاجة أيضاً مبطل للاعتكاف، هذا ما ذكره المؤلف رحمه الله فيما يتعلق بالاعتكاف، وبهذا نكون قد انتهينا من كتاب الصيام بالكامل بحمد الله ونبدأ اليوم بكتاب الحج.
قال المؤلف رحمه الله: كتاب الحجّ.
الحجُّ لغة: القصد، وحجَّ إلينا فلان أي قَدِم، ورجل محجوج أي مقصود، وقال بعض أهل العلم الحجّ: القصد لِمُعظَّم، (هذا أخصّ والأول أعم)، القصد عامة قصدت أي شيء، قال حج، لكن هذا أخصّ الحجّ لِمُعظَّم، أي يكون قصدك لشيء معظم فقط يسمى حجاً، وإلا فلا على قول الطائفة الثانية.
وأما في الاصطلاح: هو قصد موضع مخصوص في وقت مخصوص للتعبد بأعمال مخصوصة بشرائط مخصوصة.
قصد موضع مخصوص أين؟ البيت الحرام وعرفة.
في وقت مخصوص: أشهر الحج.
بأعمال مخصوصة: أي أعمال الحج.
بشرائط مخصوصة: ستأتي شروط الحج.
قال المؤلف رحمه الله: يجب على كل مكلف مستطيع.
الحجُّ واجب من واجبات الدين العظيمة، بل هو ركن من أركان الإسلام قال الله تعالى: "ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، إذن فالحجُّ واجب من واجبات الشريعة وتعلمون حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس" منها "الحج"، والإجماع منعقد على وجوب الحجِّ، ما فيه خلاف في هذا، ومن فضائله أنّه مكفِّر للذنوب، قال صلى الله عليه وسلم : "والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، المقصود بالمبرور المقبول الذي لا يخالطه إثم، وقال صلى الله عليه وسلم: "من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه" متفق عليه، لم يرفث يعني: الجماع ومقدمات الجماع، لم يُجامع ولم يأت بمقدمات الجماع، ولم يفسق: لم يعصِّ الله سبحانه وتعالى في حجِّه رجع كيوم ولدته أمُّه، وهو واجب على كل مكلف مستطيع كما قال المؤلف لقول الله: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً"، فقوله لله على الناس صيغة إلزام وإيجاب، وقيَّد ذلك بالاستطاعة فقال: "من استطاع إليه سبيلاً"، فالحج واجب في العمر مرة واحدة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس قد فَرَض الله عليكم الحجَّ فحُجّوا"، هذا فيه أمر أيضاً بالحجِّ ويُستدل به أيضاً على وجوب الحجِّ، فقال رجل: أَكُلَّ عام يا رسول الله؟ (أي يجب علينا في كل سنة)، فقال: "لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم". أخرجه مسلم في الصحيح، فيدل ذلك على أن الحجَّ يجب مرة واحدة في العمر.
للحج شروط :
الشرط الأول: الإسلام، تقدم معنا لمن حضر دروس أصول الفقه أن الصحيح بأن الكفار مُخاطبون بفروع الشريعة، والحجّ من فروع الشريعة، إذن فهم مُخاطبون مُكلفون به، لكن ما معنى الخطاب الذي أردناه، عند الأصوليين أنهم إذا لم يأتوا به عُذبوا عليه في نار جهنم لكنَّه لا يصحُّ منهم حتى يأتوا بشرطه وهو الإسلام، إذن فالإسلام شرط لوجوب الحجِّ، أي كي يصحَّ من فاعله، أي كي يُقبل من فاعله يُشترط أن يكون مسلماً.
الشرط الثاني: العقل، فالمجنون غير مُكلف لحديث: "رفع القلم عن ثلاث النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل" فالمجنون غير مكلف.
الشرط الثالث: البلوغ من شروط وجوب الحج، فغير البالغ مرفوع عنه القلم حتى يحتلم كما ذكرنا في الحديث المتقدم.
الشرط الرابع: الاستطاعة، دليلها ما تقدم من قول الله تبارك وتعالى: "من استطاع إليه سبيلاً"، والمقصود بالاستطاعة" توفر الأسباب التي تُمَّكنه من أداء فريضة الحجِّ، يدخل في ذلك المال والصحة وتأشيرة الحج أيضاً (فتأشيرة الحجِّ تعتبر من ضمن الاستطاعة)، وكذلك المَحرَم للمرأة (المحرم للمرأة أيضاً من الاستطاعة)، فإذا توفرت لها الصحة وتوفر لها المال لكنها لا تجد مَحرَماً تحج معه فهذه ليست مستطيعة وكذلك أمن الطريق.
الشرط الخامس: أن يكون المُكلّف حرّاً، فإن كان عبداً فلا يجب عليه الحج (العبد هو المملوك)، لأنَّ العبد لا مال له كما تقدم معنا في كتاب الزكاة، ذكرنا أنَّ العبد لا يملك، لا مال له، ماله لسيده، فإذا كان لا مال له كيف سيحجُّ؟ لا يمكنه الحج.
قال الترمذي رحمه الله: قد أجمع العلماء على أنَّ الصبيَّ إذا حجَّ قبل أن يُدرك فعليه الحجّ إذا أدرك، وكذلك المملوك إذا حجَّ في رقِّه (في أثناء كونه عبداً) ثم أعتق فعليه الحجّ إذا وجد إلى ذلك سبيلاً.
هذه شروط وجوب الحج.
وقال المصنف: فوراً.
أي يجب على كل مكلف مستطيع فوراً الحج، هذه قد تقدم في أصول الفقه بأن الأصل في الأمر أنَّه يدل على الفور لا على التراخي، وهذه من مباحث أصول الفقه التي ناقشناها هناك، واستدللنا على ذلك بأمرين:
الأمر الأول: قول الله تبارك وتعالى: "فاستبقوا الخيرات".
والثاني: أنه لا يدري ما يعرض له من بعد، شخص في سنة من السنين قد تيسرت له جميع سُبل الحج (تيسرت له جميع الأسباب) وأَجَّلَ إلى ما بعد ذلك، ما أدراه ما الذي سيحصل له بعد ذلك هل ستتيسر له الأسباب مرة أخرى أم لا، ما ندري فإذا كان لا يدري إذن يجب عليه أن يحجّ في الوقت الذي تيسرت له الأسباب فيها.
هذا ما يدل على أن الحجَّ إذا توفرت أسبابه صار لازماً لصاحبه فوراً، وإذا لم يحج فهو آثم.
قال رحمه الله: وكذلك العمرة.
أي وكذلك العمرة تجب على كل مكلف مستطيع فوراً، في وجوب العمرة مرة في العمر خلافٌ، والصحيح أنها سنّة وليست بواجب، إذ الأحاديث التي استدل بها من قال بالوجوب كلها ضعيفة لا يصح منها شيء، تبقى عندهم الآية "وأتموا الحج والعمرة لله"، هل لهم وجه في الدلالة من هذه الآية؟ لا، لأن المأمور به هنا هو الاتمام فإذا دَخَلت في العمرة وجب عليك أن تُتِمها، وإذا دَخَلت في الحج وجب عليك أن تُتِمه، لكنَّه لم يأمر بالبِدء بها، لو جاء أمر بالبدء بها لقلنا والله كلامكم صحيح، لكن فرق بين البدء والاتمام، فالصحيح أنَّ العمرة سنة مستحبة وليست واجبة.
قال: وما زاد فهو نافلة.
أي ما زاد عن مرة واحدة فهو نافلة سواء كان مرة من الحجِّ أو مرة من العمرة، ولكن كما ذكرنا لكم العمرة كلها من أصلها مستحبة، وأما الحجُّ فكما قال، والدليل هو ما تقدم معنا في الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم"، يدل ذلك على أنَّه لا يجب على المسلم أكثر من حجة واحدة في عمره.
نكتفي بهذا القدر إن شاء الله.