حلق اللحية وتقصيرها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ؛ فاعلم أن حلق اللحية حرام ، وإعفاؤها واجب ؛ قال أبو عوانة في مستخرجه : بيان الطهارات التي تجب على الإنسان في بدنه ، من ذلك إيجاب جز الشوارب وإحفائه ، وإيجاب إعفاء اللحية ، وإيجاب مخالفة المجوس والتشبه بأمورهم.
وقال ابن حزم في مراتب الإجماع (ص 157 ): واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : يحرم حلق اللحية ؛ كما في الاختيارات . وقال في شرح العمدة : فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها وأشد لأنه من المثلة المنهي عنها وهي محرمة. وقال القرطبي في المفهم : لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها .أ. هـ
قلت : وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركها بقوله : "خالفوا المشركين ؛ وفروا اللحى وأحفوا الشوارب" ، وفي رواية "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" متفق عليه من حديث ابن عمر ، وقوله : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس" ، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة .
قال ابن عابدين في حاشيته : "يحمل الإعفاء على إعفائها عن أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم من حلق لحاهم، ويؤيده ما في مسلم عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم
"جزوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المجوس " ؛ فهذه الجملة واقعة موقع التعليل، وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة، ومخنثة الرجال ؛ فلم يبحه أحد أ.هـ ملخصا".
وقال أبو شامة : وقد حدث قوم يحلقون لحاهم ، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها . انظر فتح الباري ( 10 / 430 ).
وأما الأخذ من اللحية فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال :
قال الكاندهلوي في أوجز المسالك : اختلفوا في ما طال من اللحية على أقوال :
الأول : يتركها على حالها ولا يأخذ منها شيئا ، وهو مختار الشافعية ورجحه النووي وهو أحد الوجهين عند الحنابلة .
الثاني : كذلك إلا في حج وعمرة فيستحب أخذ شيء منها ، قال الحافظ : هو المنصوص عن الشافعي .
الثالث : يستحب أخذ ما فحش طولها جدا بدون التحديد بالقبضة ، وهو مختار الإمام مالك رحمه الله ورجحه القاضي عياض .
الرابع : يستحب ما زاد على القبضة وهو مختار الحنفية.أ.هـ
قلت : والوجه الثاني عند الحنابلة أنه لا يكره أخذ ما زاد على القبضة. ذكره في الشرح الكبير .
وقال ابن عبد البر في الاستذكار : وأما قوله : وأعفوا اللحى ؛ فقال أبو عبيد: يعني وفروا اللحى لتكثر ؛يقال فيه :عفا الشعر ؛ إذا كثر ، وقد عفوت الشعر وعفيته لغتان .
وقال ابن الأنباري وغيره : عفا القوم إذا كثروا ، وعفوا إذا قلوا ، وهو من الأضداد.
ويقال: عفوته أعفوه ، وعفيته أعفيه.
قال أبو عمر : روى أصبغ عن ابن القاسم قال : سمعت مالكا يقول : لا بأس أن يأخذ ما تطاير من اللحية وشذ.
وقال : فقيل لمالك : فإذا طالت جدا فإن من اللحى ما تطول ؟ قال : أرى أن يؤخذ منها وتقصر .
وقد ذكر أبو عيسى الترمذي في المصنف قال: حدثني هناد بن السري ، قال: حدثني عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها .
وأخبرنا محمد بن عبد الملك قال: حدثنا ابن الأعرابي قال :حدثني سفيان عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يكره أن يشرب بنفس واحد ، وكان يأمرنا أن نأخذ من باطن اللحية.
وروى سفيان عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أنه كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة .
وعن عطاء وقتادة مثله سواء
وروى عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان إذا قصر من لحيته في حج أو عمرة يقبض عليها ويأخذ من طرفها ما خرج من القبضة
وكان قتادة يفعله
وكان محمد بن كعب القرظي يرى للحاج أن يأخذ من الشارب واللحية.
وكان قتادة يأخذ من عارضيه.
وكان الحسن يأخذ من لحيته.
وكان ابن سيرين لا يرى بذلك بأسا.
وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يأخذون من جوانب اللحية.
قال أبو عمر : قد صح عن ابن عمر ما ذكرناه عنه في الأخذ من اللحية ، وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى وهو أعلم بما روى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه لأثر ابن عمر الذي ذكره ابن عبد البر : " وقال الكرماني : لعل ابن عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى{محلقين رءوسكم ومقصرين }وخص ذلك من عموم قوله:" وفروا اللحى" فحمله على حالة غير حالة النسك . قلت : الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه ؛ فقد قال الطبري : ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها ومن عرضها ، وقال قوم :إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد . ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل ، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله ، وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال : كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة . وقوله : نعفي ؛ بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافرا ، وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر ؛ فإن السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبلة بفتحتين ، وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك .
ثم حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية هل له حد أم لا فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش ، وعن عطاء نحوه. قال :وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها .قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة ، وأسنده عن جماعة ، واختار قول عطاء ، وقال : إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به ، واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ، وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون: لا أعلم له حديثا منكرا الا هذا أ.هـ وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة . وقال عياض : يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عظمت فحسن ؛ بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها كذا قال ؛ وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها . قال: والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره . وكأن مراده بذلك في غير النسك ؛ لأن الشافعي نص على استحبابه فيه.
قلت : وخلاصة القول أن ابن عمر هو راوي الحديث ، ولم يعتبر الأخذ من اللحية بقدر القبضة مخالفا للحديث . وهو أعلم من غيره بذلك فيجوز الأخذ منها بهذا القدر . والله أعلم