الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ؛
فقد نقل الإجماع على جواز الإحرام قبل الميقات جماعة من العلماء ، ونقل بعضهم إجماع الصحابة على ذلك ، انظر الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان الفاسي .
والإجماع دليل شرعي صحيح معتمد ، وهذا مقرر في كتب أصول الفقه ، فإذا صح الإجماع وجب العمل به ، وفهم الأدلة بناء عليه وعلى فهم السلف الصالح .
قال ابن عبد البر في التمهيد : وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وعن عثمان بن عفان أنه أنكر على عبدالله بن عامر إحرامه قبل الميقات ، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح الإحرام من الموضع البعيد .
وهذا من هؤلاء - والله أعلم - كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه ، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل لأنه زاد ولم ينقص ويدلك على ما ذكرنا أن ابن عمر روى المواقيت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أجاز الإحرام قبلها من موضع بعيد هذا كله قول إسماعيل - أي القاضي - قال : وليس الإحرام مثل عرفات والمزدلفة التي لا يجاز بهما موضعهما . قال : والذين أحرموا قبل الميقات من الصحابة والتابعين كثير . قال : وحدثنا حفص بن عمر الحوضي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة أن رجلا أتى عليا فقال : أرأيت قول الله عز و جل وأتموا الحج والعمرة لله قال علي : أن تحرم من دويرة أهلك .
قال : وحدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر أهل من بيت المقدس ، وقال : لولا أن يرى معاوية أن بي غير الذي بي لجعلت أهل منه .
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي : المواقيت رخصة وتوسعة يتمتع المرء بحله حتى يبلغها ولا يتجاوزها والإحرام قبلها فيه فضل لمن فعله وقوي عليه ومن أحرم من منزله فهو حسن لا بأس به .
وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم قالوا في قول الله عز و جل وأتموا الحج والعمرة لله قالوا : إتمامها أن تحرم من دويرة أهلك .
حدثنا خلف بن القاسم حدثنا أحمد بن صالح حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيدالله المنادي قال حدثنا جدي قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا سفيان عن محمد بن سوقة قال سمعت سعيد بن جبير وسئل ما تمام العمرة ؟ فقال : أن تحرم من أهلك .
وأحرم ابن عمر وابن عباس من الشام ، وأحرم عمران بن حصين من البصرة ، وأحرم عبدالله بن مسعود من القادسية .
وكان الأسود وعلقمة وعبدالرحمان بن يزيد وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم .
قال أبو عمر : أحرم عبدالله بن عمر من بيت المقدس عام الحكمين وذلك أنه شهد التحكيم بدومة الجندل فلما افترق عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري من غير اتفاق نهض إلى بيت المقدس ثم أحرم منها بعمرة .
ومن أقوى الحجج لما ذهب إليه مالك في هذه المسألة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحرم من بيته بحجته وأحرم من ميقاته الذي وقته لأمته صلى الله عليه و سلم وما فعله فهو الأفضل إن شاء الله وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم كانوا يحرمون من مواقيتهم .
ومن حجة من رأى الإحرام من بيته أفضل قول عائشة ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ومن حجتهم أيضا أن علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعمران بن حصين وابن عمر وابن عباس أحرموا من المواضع البعيدة وهم فقهاء الصحابة وقد شهدوا إحرام رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجته من ميقاته وعرفوا مغزاه ومراده وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته صلى الله عليه و سلم ومن حجتهم أيضا ما حدثناه عبدالله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا ابن أبي فديك عن عبدالله بن عبدالرحمان بن يحنس عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي عن جدته حكيمة عن أم سلمة زوج النبي عليه السلام أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبدالله أيهما قال .
قلت : من كلام إسماعيل القاضي يتبين لنا أن جواز الإحرام قبل الميقات لا يخالف الأحاديث التي وردت في تعيين المواقيت ، ومجرد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على عدم الجواز مع وجود دليل يدل على الجواز .
وقد خالف بعض أهل العلم في جواز الإحرام قبل الميقات وهو مسبوق بإجماع الصحابة . والأفضل الإحرام من الميقات كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النووي رحمه الله في المجموع : فأجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه ، وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال : لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه ويلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات وهذا الذى قاله مردود عليه باجماع من قبله .
وأما الأفضل ففيه قولان للشافعي مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما :
أحدهما : الإحرام من الميقات أفضل .
والثانى: مما فوقه أفضل وهذان القولان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان .
وفي المسألة طريق آخر وهو أن الإحرام أفضل من دويرة أهله قولا واحدا وهي قول القفال وهى مشهورة في كتب الخراسانيين وهى ضعيفة غريبة والصحيح المشهور أن المسألة على القولين .
وقال النووي رحمه الله : والأصح على الجملة أن الإحرام من الميقات أفضل للأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات ، وهذا مجمع عليه ، وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها ، وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة. رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازى .
وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعون وجماهير العلماء وأهل الفضل فترك النبي صلى الله عليه سلم الإحرام من مسجده الذي الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شك في أن الإحرام من الميقات أفضل .
وقال رحمه الله : في مذاهب العلماء في هذه المسألة : قد ذكرنا أن الأصح أن يحرم من الميقات وبه قال عطاء والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحق وروي عن عمر بن الخطاب حكاه ابن المنذر عنهم كلهم .
ورجح آخرون دويرة أهله وهو المشهور عن عمر وعلي وبه قال أبو حنيفة وحكاه ابن المنذر عن علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبي إسحق يعني السبيعي ودليل الجميع سبق بيانه قال ابن المنذر : وثبت أن ابن عمر أهل من إيليا وهو بيت المقدس . والله أعلم